أين السلطة الفلسطينية من الحرب على غزة؟!

أين السلطة الفلسطينية من الحرب على غزة؟!

رام الله – الشاهد| كتب د. موسى العزب.. منذ أن تعرض قطاع غزة في السابع من أُكتوبر 2023 لعدوان “إسرائيلي” همجي ما زال مستمراً حتى اللحظة، شهدنا شراكة وإسنادا غير مسبوق من دولٍ داعمة ل”إسرائيل”، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي حركت أساطيلها إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية، ثم إلى البحر الأحمر.. وإستمرت في ترويج الرواية الصهيونية الزائفة في المحافل الدولية، ومنحت “إسرائيل” شيكا على بياض في حرب التطهير العرقي والقضاء على المقاومة.

منذ بدء العدوان، لم تتوقف الزيارات المكوكية للرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، وأركان حربه إلى الهيئات السياسية والعسكرية الصهيونية، والمشاركة عمليا بأهم إجتماعات وقرارات مجلس الحرب الصهيوني، كجزء عضوي من أدوات الحرب وإسنادها، فيما غاب بشكل شبه كامل أي دور فاعل للسلطة الفلسطينية بإعتباها الممثل “الرسمي” للنظام الفلسطيني، لوقف الحرب على غزة، أو التخفيف من وطأتها، أو تحريك الوضع الدولي، وسط إستهجان وإنتقاد أطراف فلسطينية وعربية ودولية، لحالة العجز التام عن إستخدام أي من الأوراق التي من الممكن أن تؤثر في إتجهات ما يجري.

7 أكتوبر، يفاجئ “السلطة” ويكشف عجزها وتفسخها

لقد وقعت معركة طوفان الأقصى، والسلطة الفلسطينية تعيش أسوأ أحوالها، فقد فاجأ طوفان الأقصى الجميع، وسقط عنوة على رأس “السلطة” فيما كانت تتلهى بالحديث عن مرحلة ما بعد محمود عباس إبن ال 87 عاما، في ظل حالة من الانقسام الفلسطيني، والتنافس العبثي على “الخلافة” داخل حركة فتح، مع حضور فاضح لدور أمني وسياسي إسرائيلي، في ظل نظام سياسي إستبدادي معزول وطنيا وإقليمياً، يتمسك بإتفاقية أوسلو، ويشجب علنا أشكال المقاومة المسلحة، ويتهرب من وضع آليات مؤسسية واضحة ترتب لمرحلة إنتقاله، خاصة بعد فشل مشروع السلطة السياسي، وإهتراء كل أشكال العمل المؤسسي في أجهزتها.

وفي مقاربة تشريحية لأحوال السلطة، فقد أشار التقرير السنوي الأخير الذي أصدره الائتلاف الفلسطيني من أجل المساءلة والنزاهة (أمان) الى اعتقاد 85% من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية. دون أن يقتصر هذا الفساد على مسألة تجاوزات إدارية ومالية بحتة يرتكبها أفراد ومجاميع لمصالح شخصية فحسب، بل هو فساد بنيوي متأصل في هيكل السلطة الأساسي وفي النظام السياسي الفلسطيني سبق حتى إتفاق أوسلو.

ورغم كل ما يقال عن الجهود المبذولة لمكافحة هذا الفساد، إلا أنها إتسمت بالغالب بطابع إجرائي وإنتقائي، وتغاضت عن مسبباته المنهجية والسياسية، الأمر الذي أسهم في إعادة انتاجه بأشكال جديدة أكثر إحترافية ومؤسسية، ولعل العامل الأساسي في إعادة إنتاج فساد نظام الحكم الفلسطيني واستدامته هو إنحراف الموقف السياسي، وإنحدار المنظومة القيمية، وتغييب هيئة رقابية وقضاء مستقل، بما يوائم النظام التنفيعي القائم على الشبكات الزبائنية -العلاقات العشائرية والمناطقية والعائلية والمعارضة الإنتهازية- التي تحكم طبيعة العلاقات في جميع مؤسسات وهيئات السلطة؛ من شراء للولاءات كأداة مستدامة للسيطرة على القواعد الشعبية وتوسيع شبكات الموالين وبسط النفوذ لتنفيذ الأجندات السياسية من دون معارضة فاعلة. وتعمل إدارة الإحتلال على إعادة تدوير مظاهر فساد السلطة وتأبيدها لإبقاء قيادتها عاجزة وطيعة رهن سياساتها، وحبيسة لإملاآت الوصي الأمريكي. في وقت لم يتبقى لهذه القيادة سوى بعض القبول الدولي الخجول.

بإستثناء بعض اللمحات الإيجابية في مواقف السلطة كقيام الرئيس عباس بترأس إجتماعا للقيادة الفلسطينية عند بدء العدوان، أكّد فيه على حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه في مواجهة قوات الاحتلال وإرهاب المستوطنين، وطالب بتوفير ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية للمدنيين في القطاع، وتأكيده على رفض مخططات التهجير، وإجرائه إتصالات هاتفية مع وزير الخارجية الأمريكي “بلينكن”، أكّد فيه أنّ الفلسطينيين لا يتحملون مسؤولية ما جرى من أحداث، وأن السبب تتحمله قوات الاحتلال “الإسرائيلي”، والاعتداءات على المقدسات، وشدد على ضرورة وقف العدوان معتبراً بأن ما يجري جريمة حرب ضد الشعب الفلسطيني بأكمله.. قبل أن يغيب تماما عن ساحة الفعل حتى ضمن الحد الأدنى من صلاحياته ومجال عمله.

على الصعيد الدبلوماسي، والإعلامي، شهدت الساحة الفلسطينية تحركات متعددة في إطار التصدي للسردية الأمريكية والصهيونية حول ما جرى من أحداثٍ في السابع من أكتوبر، حيث برزت جهود عدد من السفراء الفلسطينيين، كان أبرزها أدوار السفير الفلسطيني في بريطانيا، والتي فتحت الباب أمام إحداث اختراق في السردية “الإسرائيلية” التي سادت في الأيام الأولى للعدوان، كما رفض بعض السفراء إدانة حركة حماس أو اتهامها بالإرهاب أمام المحافل الدولية أو اللقاءات الإعلامية، وحمَّلوا الاحتلال المسؤولية المباشرة عما جرى من أحداث. ومن جهته أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني، رفضه “العودة إلى حكم غزة على متن طائرة إف 16 أو دبابة “إسرائيلية”، ورفض ما يقع على القطاع” وذكَّر بأن الموقف في هذا الخصوص مرهون بالتشاور مع الكل الفلسطيني.

إرتهان السلطة للإدارة الأمريكية، ومعاودة الأخطاء القاتلة

عدا ذلك، فقد فشلت قيادة السلطة الفلسطينية في تقدير أهمية ما حدث في السابع من أكتوبر، ومفصلية الحدث في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ولم تدرك عمق إرتداداته على الساحة الفلسطينية والعربية. فالهجمة “الإسرائيلية” المتوحشة على قطاع غزة أوحت من قوة ضراوتها أنّ مسألة التخلص من حماس في غزة لن تطول، وكأن قيادة السلطة قد “إطمأنت” لهذا التقدير، و”طنشت” عن استخدام أوراق الضغط الممكنة، مثل ملاحقة “إسرائيل” في المحاكم الدولية، وتنفيذ قرارات المجلسين المركزي والوطني فيما يخص العلاقة مع الاحتلال، إلا أن تطورات الأحداث في الميدان والمنطقة قد جاءت بشكل مغاير تماما لهذا التقدير.

وهكذا فقد جاءت تصريحات عباس الأولية باهتة وقاصرة في معرض تقيمه للوضع عندما قال:
أن “حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني” قبل أن يتم تعديل تصريحه عبر وكالة الأنباء الرسمية بصيغة مخففة. وقد أثارت تصريحاته إحتجاج الشارع الفلسطيني الذي اعتبر بأن الوقت غير ملائم للمهاترات الفئوية وإفتعال الحديث عن التمثيل الفلسطيني في ظل ما يتعرض له قطاع غزة من إبادة جماعية.

وطوال أمد العدوان الوحشي، لم يخرج الرئيس مخاطباً الشعب إعلاميا سوى مرة واحدة في ظل تساؤل شعبي حول الدور المنوط بالرئيس في مثل هذه الظروف الإستثنائية التي تمر بها القضية، وفي ظل إستبيانات للرأي تؤكد تأييد أغلبية الفلسطينيين للكفاح المسلح!

غابت السلطة الفلسطينية عن تفاعل وحراك الشارع تماما، وهي التي كانت لا تتردد في تحريك التظاهرات تأييدا للرئيس في غداته ورواحه، من ناحيتها، فقد حضرت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل عكسي.. فلم تبدي أي دور في حماية الشعب الفلسطيني أمام التنكيل الصهيوني المتواصل، بل أعاقت ومنعت الحراك الشعبي نصرة لغزة، وإستمرت في لعب دور “المنسق” الأمني لعصابة الإحتلال.

وبإستثناء الدور الإعلامي الإيجابي لسفيري فلسطين في بريطانيا وكندا، ومندوب المنظمة في الأمم المتحدة، فقد بدا صمت الجهاز الدبلوماسي الفلسطيني المتضخم مدعاة للريبة والإدانة، وشهدنا تغييبا شبه كامل لهيئة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولإجتماعات الأمناء العاميين لفصائل المقاومة.

إمعانا في تغييب أي دور “مؤسسي” فلسطيني فاعل، ومحاولات تلفيق شريك فلسطيني عربي في هدر دم الفلسطينيين، حاولت الولايات المتحدة استدراج السلطة الفلسطينية للمشاركة في تصورات مفترضة لشكل الحل النهائي في قطاع غزة وإدارة شؤونه بعد انتهاء العملية العسكرية التي تشنها بنفسها و”إسرائيل” على القطاع، بذريعة إعادة السلطة الفلسطينية للسيطرة على قطاع غزة وإدارة شؤونه، ولكنّ الأمر ما زال يراوح مكانه لأسباب موضوعية وذاتية بتنا نعرفها.

وحتى الآن، بقي السلوك السياسي “للسلطة” مرتهنا للموقف الأمريكي، وواقعا في مستنقع الخطأ الإستراتيجي، وحبيسا لدائرة الحركة التي ترسمها الإدارة الأمريكية وفق إتفاق أوسلو وما تبعه، وإبقاء قناة تخابر مفتوحة مع الأمريكان، في وقت يعلن فيه هؤلاء بأنهم جزء أصيل من العدوان.

إرهاصات هزيمة “إسرائيلية” وارتدادات مختلفة

مع الصمود البطولي في غزة، والإرتدادات النوعية للرأي العام الدولي، تراجع الدعم العام للرواية الأمريكية الإسرائيلية، وتدحرج معسكر العدو عن سقف التصورات الأولى للعدوان، مع بروز الخلافات الداخلية “الإسرائيلية”، وتضرر حسابات المصالح الأمريكية، نالت السلطة الفلسطينية حصتها من هذا التراجع، وخاصة على المستوى الشعبي الفلسطيني، الذي بات ينظر إليها باعتبارها غير قادرةٍ على التأثير في الشارع، في ظل حالة مزاجٍ عام داعم للمقاومة.

إن كانت بعض التوقعات تفترض بأن حماس ستخرج منهكة القوى من الحرب، إلا أن معظم التوقعات تؤشر بأنها ستكون رابحة سياسياً على المستوى الشعبي والوطني، مقياساً بخسارة أكيدة للسلطة لنفس الدرجة، وفي هذه الحالة فإن أي عملية سياسية قادمة ستكون حماس جزءاً منها، وهذه الإحتمالات قد تدفع السلطة للإستثمار في تشكيلات سياسية وطنية مبكرة، تُستوعب فيها كل المكونات الفلسطينية.

كما تشير التوقعات، بأن الارتدادات المباشرة والتي من الممكن توقع إنعكاسها على السلطة الفلسطينية في حال إنجاز أي حل على مستوى التفاوض في صفقة أسرى قادمة تبرمها حماس، ستغير من التركيبة البنائية لحركة فتح، نظراً لأنّ قائمة المحررين، ستتضمن عناصر فتحاوية فاعلة، وما يمكن أن يعكسه ذلك على التركيبة التنظيمية للسلطة، ومطالبات لاحقة بإجراء إصلاحات داخلية في السلطة وفتح وباقي الفصائل.

هل فات الأوان على خروج “السلطة” من الفخ الذي أوقعت نفسها فيه؟

لقد كان بإمكان السلطة الفلسطينية لو إمتلكت الرؤية والإرادة استثمار الحدث الكبير والاستفادة منه في تحقيق اختراق حقيقي لحالة الجمود السياسي والعزلة التي تعيشها منذ سنوات، من خلال تحملها لمسؤولياتها، وتبني مواقف بحجم الحدث أكثر قرباً للشعب ونبضه. على الأقل كان عليها التجاوب مع الأصوات المطالبة بمواقف أكثر حزماً، وقرارات تاريخية تُعيد للقضية الفلسطينية مكانتها، في وقت يمارس فيه الاحتلال عنفاً وفظاعة على كل المستويات.

إلّا أن حضور السلطة الضعيف، وتهافت مواقفها كان له ارتدادات سلبية خطيرة، لا بد وأن يكون لها انعكاسات وخيمة على المستوى الشعبي والنظرة الإقليمية والدولية لها.

كما ظهر جليا بأنّ هيئات وبنية منظمة التحرير ما عادت قادرة بشكلها الحالي على مواجة التحديات، أو الإسهام في إنتاج حلول للمشكلات، وأن الحالة الفلسطينية تستوجب إيجاد صيغ وحدوية تقوم على برنامج مقاوم وإنخراط الإطراف الفلسطينية الفاعلة ضمن هذا البرنامج، حتى تتجاوز ترهات “السلطة”، وتتصدى للمشروع الصهيوني، ولحجم الأزمات والمشكلات الفعلية.

المطلوب بشكل فوري؛ اتخاذ قرارات حاسمة في التعامل مع مجريات الأمور، أقلها إيقاف كل أشكال التعاون مع المحتل، والدفاع عن الفلسطينيين في غزة والضفة، وتوسيع رقعة المواجهة مع الاحتلال، والدعوة إلى الوحدة الوطنية وتشكيل قيادة طوارئ موحدة، وضرورة التنبه إلى أن المستهدف في غزة ليست حماس وحدها، وإنما الشعب الفلسطيني بمجموعه.

إن أرادت تجنب السقوط، على السلطة الفلسطينية، التجاوب السريع مع نداءات خلق أفق سياسي جامع لأطياف ومكونات الحالة الفلسطينية، ضمن عناوين سياسية وفكرية واضحة للمواجهة، لتعيد ثقة الشارع بالكيانية والمشروع السياسي الفلسطيني، المتمثل بالتحرير والعودة وتقرير المصير على كل فلسطين.

إغلاق