لماذا كل هذا الصمت؟ الشارع الفلسطيني ميت؟

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني خالد فحل، مقالاً حول حالة العجز التي تشهدها الضفة الغربية من القيام بتحركات فعلية وحقيقة نصرةً لأهالي سكان قطاع غزة الذين يتعرضون لإبادة جماعية وتجويع منذ قرابة العامين، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
لماذا كل هذا الصمت؟ سؤال يطرق جدران القلب قبل أن يطرق أبواب العقل. غزة تُباد أمام أعين العالم، والضفة تُكبل بقيود الحواجز والاقتحامات اليومية، والقدس تُهوّد بلا توقف، وشارعنا الفلسطيني… صامت!
لم نعد نرى التظاهرات التي تهز الأرض تحت أقدام المحتل، لم نعد نسمع الهتافات التي كانت تصدح من الحناجر الملتهبة بالغضب. اختفت أصوات الغضب من المدن والمخيمات، وتلاشت تلك اللحظات التي كانت فيها الأحذية تُقرع في الشوارع غضبًا لأجل شهيد أو مجزرة. هل تعب الناس؟ هل استسلموا؟ أم أن الخوف أصبح سيد الموقف، يقيد الألسن قبل الأجساد؟
حتى حين تخرج مظاهرة هنا أو هناك، فإنها لا تتجاوز العشرات، يصرخون وحدهم في وجه الصمت، تتكسر أصواتهم بين جدران الإسمنت ونظرات العابرين، دون أن تترك أثرًا يُذكر. يصبح الغضب مجرد طقس رمزي يؤديه البعض نيابة عن شعب بأكمله، في مشهد يختصر عمق الخيبة.
في السابق، كان استشهاد شاب كفيلًا بإشعال المواجهات في كل مكان. اليوم، تُقصف أحياء بأكملها، تُباد عائلات كاملة، يُدفن الأطفال تحت الركام، ولا نرى إلا صمتًا ثقيلًا، وهمسًا باهتًا، ومنشورات خجولة على وسائل التواصل. كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تحولت الكارثة إلى روتين يومي؟
ليست القضية أن الناس لا يشعرون، بل إنهم يشعرون كثيرًا حتى تبلدت مشاعرهم من شدة الألم. هناك إحباط هائل يسكن النفوس، وهناك جوع وبطالة وظلم واحتقان، وهناك قهر يومي يمارس من كل الجهات. لكن هذا كله لا يبرر الصمت، لا يبرر الغياب التام لصوت الشارع.
الاحتلال لم يتغيّر، بل ازداد فتكًا وتوحشًا، غير أن ما انكسر فينا أعمق من أن يُرى بالعين. في غزة، الموت يهبط من السماء، معلنًا حربًا يعرفها الجميع، لكن في الضفة… الموت بلا ضجيج، بلا صواريخ ولا رماد. الضفة تجوع بلا حرب، تتآكل ببطء تحت رحمة اقتصاد هش هنا، لا يُسمع الانفجار، لكن الروح تنزف في صمت. أصبح الجوع سياسيًا، ممنهجًا، لا يحمل سكينًا لكنه يذبح، لا يهدم بيتًا لكنه يهدّ كرامة.
حين تصبح النجاة هي الغاية، تسكت الأصوات، ويتحول الصراخ إلى همس داخلي. الخوف هنا ليس من القذائف بل من فاتورة الكهرباء، من الدين المتراكم، من عجز الأب عن شراء الحليب. في هذا الموت الصامت، تُدفن الإرادة وتُقمع الغضبة، لا لأن الناس لا يشعرون، بل لأنهم يشعرون أكثر مما يحتمل الإنسان، أكثر من أن يُقال في مظاهرة لا يحضرها إلا العشرات.
الاحتلال لم يتغير، لكنه عرف كيف يقتل الروح دون إطلاق رصاصة. أصبح الصمت وسيلة بقاء، والحياد وسيلة نجاة.
أين النقابات؟ أين القوى السياسية؟ أين المثقفون؟ كيف تحوّلت غزة إلى مسلخ مفتوح دون أن نرى ولو هبّة واحدة تليق بحجم المجازر؟ كيف تمر الجريمة وكأنها نشرة طقس؟
الصمت جريمة، والتخلي خيانة. ليست المقاومة فقط من يحمل السلاح أو يقاتل . المقاومة أيضًا موقف، كلمة، مظاهرة، صرخة، لنقول: نحن هنا.
من يظن أن الشارع مات، واهم. الشارع لم يمت، لكنه يُخدّر، يُكمّم، يُراقب، يُفكّك من الداخل.
لكن سيأتي يوم ينفجر فيه هذا الصمت، ويصرخ من كانوا يخشون الهمس. فالألم حين يتراكم لا يُمحى، بل ينفجر. وشارعنا، وإن بدا ميتًا اليوم، فهو حي في عمق روحه، ينتظر فقط من يشعل فيه شرارة الكرامة من جديد.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=91644





