رسالة مفتوحة إلى رئيس السلطة: احترام الدستور لإنقاذ الوطن والأمانة

رسالة مفتوحة إلى رئيس السلطة: احترام الدستور لإنقاذ الوطن والأمانة

رام الله – الشاهد| كتب د. عصام عابدين:

مِن المستشار القانوني السابق لهيئة رئاسة المجلس التشريعي الفلسطيني.. أمّا بعد،

نحن اليوم أمام لحظة فارقة في التاريخ الفلسطيني، لحظة مفصلية ستبقى محفورة في ذاكرة الأجيال القادمة، وستُحدد معالم مستقبل الوطن.

أنتَ تعلم، علم اليقين، كما يعلم مستشاروك، أن صلاحيات الرئيس وفق دستورنا الفلسطيني باتت محدودة وشكلية منذ التعديلات الجوهرية التي طالت القانون الأساسي عام 2003. تلك التعديلات لم تأتِ من فراغ، بل جاءت من خارطة طريق وفي أجواء صاخبة، شارك فيها فلسطينيون وعرب وعجم، وشهدت تفاصيل كثيرة، وتفاصيل أكثر أشبه بأمواج دستورية لم يُحيط بها مَن انشغلوا آنذاك بصراع الصلاحيات، ولا مَن انصرفوا عن جوهر النصوص إلى معارك الظلال. ولو رجعتم مُجدداً إلى المحاضر البرلمانية الحرفية، لن تدركوا إلا النزر اليسير عنها، إنها أمواج دستورنا العاتية.

أنتَ تعلم أيضاً، كما يعلم مستشاروك وخبراؤك، أنك منذ بداية الانقسام المتجذر في الحالة الفلسطينية شديدة التعقيد قد أصدرت تشريعات استثنائية تفوق “خمسين سنة” قياساً على القوانين التي أصدرها المجلس التشريعي الفلسطيني (المشرّع الأصيل) على مدار ولاية برلمانية استمرت مدة عشر سنوات، بعد إفشال كل الجهود لاستعادة “التشريعي” إلى أن أطاحت به المحكمة الدستورية التي شكّلت قُضاتها في ظل الانقسام، أطاحت به “بتفسير دستوري” وتشكيل مُنعدم دستورياً “باسم الشعب العربي الفلسطيني” في جلستها المنعقدة يوم الأربعاء الموافق 2018/12/12 في أوسع عدوان سافر على الدستور الفلسطيني آنذاك. آمل أن تُدرك بِعُمق حجم الآثار المُدمّرة على منظومة الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية.

وأُذكّرك، كمواطن فلسطيني، بأنَّ قانوننا الأساسي العظيم بأمواجه الدستورية العاتية، ما زال صامداً شامخاً، ولن ينكسر، فتأمل حدود صلاحياتك وولايتك، والتزم بها، كما فَرَضّتَ الالتزام على غيرك. وامتثل للقانون الأساسي، وإرادته العليا، التي تصدح بأنَّ مبدأ سيادة القانون هو أساس الحكم في فلسطين.

إعلم، وأبلغ مَن يُخطط لخلافتك، أن هذا الإرث التشريعي الثقيل والرديء، الذي أثقل كاهل ماضينا وحاضرنا، سيُجابه يوماً برياح دستورية عاتية، مُذهلة في فنّ تفكيكه، تُعيد للدستور هيبته، وللحقوق كرامتها، وللقانون سيادته.

إعلم أنَّ التاريخ لا يُسامح، وأنَّ الحق قديم لا يُبطله شيء، وأنَّ التراجع عن الخطأ فضيلة، والعودة إلى جادة الصواب خيرٌ من الإصرار على مسار يُطيح بمبادئ دستورنا وقيمه، ويهدم معه أُسس الحكم الصالح.

إنَّ احترام قانوننا الأساسي (الدستور)، والقَسَم الدستوري، والعقد الاجتماعي، ليس مُجرّد خيار، بل هو واجبٌ وطنيٌ لا بديل عنه، عبر نقل السلطة بشكل دستوري وحضاري يُكرّس إرادة مشرّعنا الدستوري، وبرنامج عدالة انتقالية للانتقال من عهد الظلم والاستبداد إلى الحرية وسيادة القانون، فالسيادة للشعب، والشعب هو مصدر السلطات وأصل السيادة.

شعبنا يستحقُ انتقالاً حضارياً للسلطة وعدالة انتقالية تُصان فيها الحقوق وتُحترم الحريات وتترسّخ فيها الكرامة الإنسانية، وبرنامجاً وطنياً يُجسّد حق تقرير المصير ويُعزز صمود الفلسطينيين الأصلانيين على أرضهم، أرض الآباء والأجداد، أرض الشهداء والجرحى وأسرى الحرية، أرض القدس والرسالات السماوية، في مواجهة احتلال استعماري استيطاني قائم على التهجير والاضطهاد والفصل العنصري والإبادة الجماعية، وأشلاء النساء والأطفال في غزة، التي تركتموها، كما الجميع، وحيدة مكلومة.

عليكَ إنهاء الانقسام، بعد إفشال كل جهود رأب الصدع، من وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) إلى إعلان بكين بشأن المصالحة الفلسطينية وما تلاه، ذلك الانقسام الذي بات يُغذيه الحقد ودماء الأشقاء. وبيدك وحدك أن تضع حداً لهذا النزيف الوطني الذي مزّق النسيج الفلسطيني، وجعل الإخوة يتصارعون بالرصاص، بدل أن يكونوا صفاً واحداً في مواجهة احتلال استعماري غاشم حتى ينالوا حقهم المقدس في الحرية وتقرير المصير.

الفهمَ الفهمَ، فيما تلجلج في صدرك، فإنَّ الحق في موطن الحق يعظم به الأجر، ويحسن به الذكر والختام. واحذر أن يكون استمرار هذا النهج سبباً في ضياع الأمانة التاريخية التي حملها الشعب الفلسطيني، وصانها بدماء شهدائه، ودموع نسائه وأطفاله، وصبر أسراه وجرحاه، فنحن اليوم نقف على حافة مرحلة هي الأخطر في تاريخ القضية الفلسطينية والمصير المشترك.

قال الله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”. صدق الله العظيم.

والسلام على مَن ردَّ السلام.

إغلاق