عندما تنتهي الحرب وتصرخ الجراح

عندما تنتهي الحرب وتصرخ الجراح

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومحاولات أهالي القطاع لملمة جراحهم التي نزفت على مدار عامين كاملين من حرب الإبادة، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

حين يخيّم الصمت على المدن المدمّرة، وتغيب أصوات القذائف عن السماء، يظنّ الناس أن الحرب انتهت… لكنها في الحقيقة تبدأ من جديد، تبدأ داخل النفوس التي نجت بأجسادها وتركَت أرواحها هناك، تحت الركام.

فما بعد الحرب ليس راحةً ولا استراحة، بل وجعٌ آخر، أعمق وأقسى، حيث تتكشّف الجراح، وتخرج المآسي من بين الحجارة المهدّمة كأشباحٍ تبحث عن عدالةٍ ضاعت في زحام الموت.

· هنا، تبدأ الحكايات التي لا تُروى إلا بالدموع… حكايات من بقوا على قيد الحياة، لكنهم لم يعودوا كما كانوا.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لم تنتهِ المأساة… بل بدأت فصولها الأشدّ وجعًا.

هناك حين تخرج الجروح من تحت الركام، وتتكشّف الحكايات التي لا تُروى إلا بالدموع.

في كل زاوية هناك أمّ تفتّش بين الركام عن بقايا ابنها، وأبٌ يحدّق في صورٍ باهتة يحاول أن يتذكّر ملامح من غابوا.

هناك عائلات مُسحت من سجلات الحياة، لم يبقَ منهم سوى اسم على جدارٍ محترق.

هناك من فقدوا الأب أو الأم، أو الأخ أو الأخت، أو جميعهم دفعة واحدة.

مئات الأيتام يجلسون على أطلال بيوتهم، لا يعرفون أين يذهبون، ولا من يحتضنهم بعد أن رحل من كان يحتضنهم بالحب والحنان.

مئات الأطفال وحدهم، في مواجهة عالمٍ قاسٍ لا يعرف الرحمة.

وهناك من فقدوا أطرافهم، فأصبحوا سجناء لأجسادٍ لا تطيعهم، يتعلّمون من جديد كيف يعيشون بنصف جسدٍ ونبضٍ مكتمل بالحزن.

وهناك من أطفأت الحرب نور عيونهم، يعيشون في ظلامٍ أبديٍّ لا يرون فيه سوى صورٍ محفورة في الذاكرة، صورٌ لمدينةٍ كانت يوماً تضجّ بالحياة، ثم غمرها الموت.

وهناك من شرّدهم القصف، فصاروا بلا مأوى، ينامون تحت خيامٍ متهالكة أو في العراء، يتقاسمون البرد والخذلان والجوع.

وهناك من خسروا كل شيء… البيت، الأحلام، الأحبة، حتى المعنى.

أصبحوا أحياءً بلا حياة، يتنفّسون فقط لأن الموت لم يأتِ بعد.

الحرب انتهت في الظاهر، لكنها لم تغادر النفوس.

كل من بقي حيًّا يحمل في داخله مقبرةً من الذكريات، وجراحًا لا يداويها الوقت، ولا تسكنها سوى الدموع.

تبدو المدينة بعد الحرب كجسدٍ مثقوبٍ بالذاكرة، كل حجرٍ فيها يحمل وجعًا، وكل زاويةٍ فيها تبكي من صمتٍ يختبئ خلفه ألف صراخ.

أمّهاتٌ يحدّقن في السماء علّهن يرين ملامح من رحلوا، وآباءٌ فقدوا القدرة على الكلام بعدما فقدوا أبناءهم، وأطفالٌ ينامون على الأرض وقد نسوا طعم الطفولة.

إنه زمن ما بعد الحرب… زمن الوجع الطويل، حين يصبح الحنين أشدّ من الجوع، والخسارة أكبر من القدرة على التعبير.

الحرب لا تقتل فقط من يسقطون تحت القصف، بل تقتل كل من يبقون بعدها.

تترك فيهم ندوبًا لا تُرى، وجراحًا لا تندمل، وتحوّل الذاكرة إلى مقبرة مفتوحة.

من فقد طرفًا يفقد معه توازنه، ومن فقد عينًا يفقد رؤيته للعالم، ومن فقد عائلته يفقد المعنى كله.

ومع ذلك، ينهض البعض من تحت الركام، يحاولون بناء ما تبقى، يجمعون فتات الأمل كما يجمع الأطفال حجارةً ملونة في ركامٍ رماديٍّ قاتم.

لكن السؤال يبقى: من سيضمّ هؤلاء؟ من سيجبر كسرهم؟ من سيمنحهم معنى جديدًا لحياةٍ لم يعودوا يعرفونها؟

في زمنٍ تتراكم فيه الجثث وتُنسى الحكايات، يصبح البكاء نوعًا من المقاومة، والذاكرة سلاحًا ضد المحو.

الحرب انتهت، نعم، لكن السلام لم يولد بعد.

ما زال كل بيتٍ في غزة، وكل أمٍّ في المخيم، وكل طفلٍ على أطراف الركام، يصرخ في وجه العالم: لسنا أرقامًا، نحن بشرٌ فقدنا كل شيء، ولم نفقد حقنا في الحياة.

إغلاق