“شاتمو المقاومة”.. الكلمة المأجورة والوجه الناعم للمحتل

“شاتمو المقاومة”.. الكلمة المأجورة والوجه الناعم للمحتل

رام الله – الشاهد| شن الكاتب الفلسطيني اسماعيل ريماوي في مقال له هجوماً على الذباب الإلكتروني الذين يشنون هجوماً على المقاومة الفلسطينية، وذلك بعد غيظهم من فشل الاحتلال في القضاء عليها، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

في زمنٍ تحوّل فيه الصمت إلى جريمة، هناك من اختار أن يتكلّم لا لينصر المظلوم، بل ليبرّر للجلاد جريمته على شاشاتٍ عربية وعالمية و على وسائل التواصل الاجتماعي، يظهرون بربطات عنق أنيقة وكلماتٍ مصقولة، يقدّمون أنفسهم كـ”محللين” و”خبراء”، لكنهم في الحقيقة مجرد أدواتٍ مأجورة في ماكينة التبرير والتطبيع، يبررون قصف الأطفال وتجويع المدنيين، ويُلقّنون خطابًا صاغته غرف الدعاية الإسرائيلية والأنظمة التابعة لها، هؤلاء هم “شاتمي المقاومة”، من باعوا كرامتهم مقابل فتات الامتيازات ورواتب من خزائن الفساد، ومن اختاروا أن يكونوا لسان المحتل بدل أن يكونوا صوت شعبهم.

في المقابل، يتحدث فنانون ومثقفون من العالم الحر، بل حتى من هم من اليهود، بضميرٍ حيّ، يدافعون عن غزة، يندّدون بالإبادة، ويقفون في وجه الرواية الإسرائيلية المزيّفة، رغم التهديدات والمقاطعة والتشهير، بينما أولئك الذين ينتمون ظاهريًا إلى فلسطين أو إلى الأمة العربية، يختبئون خلف الشعارات الفارغة ليبرروا قتل الأبرياء ويشوّهوا صورة المقاومة، وكأنهم يتلذذون بإرضاء أسيادهم في العواصم التي تحكمها المصالح لا المبادئ.

أيّ عارٍ هذا الذي يجعل مثقفًا أو إعلاميًا عربيًا يبرر القصف على أطفال غزة؟ أيّ سقوطٍ أخلاقيّ هذا الذي يجعل من جرائم الحرب “حقًّا في الدفاع عن النفس”؟ إنهم لا يكتفون بالصمت، بل يتطوعون في جيش التضليل الإعلامي، يغطّون الجرائم بالعبارات الملساء، ويمسحون آثار الدم بالكلمات العسولة.
لقد تحوّل البعض إلى جسرٍ تمرّ عليه دعاية الاحتلال بسلاسة، بعضهم يقدّم نفسه كـ”خبير او ناطق”، لكنه في جوهره مجرد مروّجٍ لخطاب الاحتلال، يختزل المأساة الفلسطينية في “أخطاء سياسية” ويتناسى أنها جريمة عمرها أكثر من سبعين عامًا، آخرون يتحدثون عن “حكمة الواقعية” و“الفرص الضائعة”، كأنهم يسعون لإقناع شعوبهم بأن الخضوع قدرٌ لا مفرّ منه، وأن مقاومة الاحتلال مغامرة “غير عقلانية”.

إن “شاتمي المقاومة” لا يختلف في جوهرهم عن أدوات الاحتلال، فكلاهما يسعى إلى هدفٍ واحد: إخماد صوت الوعي الشعبي، الأول يفعل ذلك بالسلاح والقصف، والثاني يفعله بالكلمة المسمومة وبالموقف المأجور، وفي زمن الإعلام الموجّه، قد تكون الكلمة أخطر من الرصاصة، لأن الرصاصة تقتل جسدًا واحدًا، أما الكلمة فتقتل الوعي وتطمس الحقيقة.

لقد كشفت حرب غزة عن من هم منا ممن يدافعون عن سياساتٍ تابعةٍ للهيمنة الصهيونية والأمريكية، يهاجمون المقاومة ويبررون العدوان، يهاجمون الضحية ويخاطبون ودّ الجلاد، إنهم لا يكتبون من وحي الإيمان بالقضية، بل من وحي التعليمات التي وصلتهم من أسيادهم .

ومع ذلك، يبقى الأمل في أولئك الذين لم يبيعوا صوتهم ولا أقلامهم، من يقفون اليوم في الساحات والجامعات والفضاءات الرقمية ليقولوا كلمة الحق، في المقابل، يختبئ “شاتمو المقاومة” خلف الكاميرات، يخافون أن يفقدوا مواقعهم، ويظنون أن مناصبهم تحميهم من لعنة التاريخ، لكن التاريخ لا يرحم، وسيُذكر الأحرار بأسمائهم، كما سيُذكر المتواطئون بأسمائهم، لأن الكلمة موقف، والموقف هو ما يخلّد صاحبه أو يلعنه.

“شاتمو المقاومة” اليوم ليسوا مجرد أفراد، بل منظومة كاملة، تمتد من القنوات الرسمية إلى المؤسسات الثقافية الى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتغذى على المال السياسي وتعيش على الخضوع، مهمتها أن تروّض وعي الناس، أن تجعل القهر مقبولًا والاحتلال واقعًا طبيعيًا، أن تحوّل الهزيمة إلى “سلام” والاستسلام إلى “حكمة”، إنهم الوجه الناعم للمحتل، يبررون القصف بكلماتٍ منمقة، ويدعون إلى “السلام” بينما تُدفن جثث الأطفال تحت الركام.
وفي المقابل، هناك فنان أو كاتب أو ناشط يهودي يقف على الشاشات او على مسرح في نيويورك أو لندن أو باريس، يرفع صوته من أجل غزة، ويصرخ ضد الإبادة، لأنه يرى في الفلسطيني إنسانًا يُقتل ظلمًا، أيّ مفارقة هذه؟ أن نجد فيهم من بقيت فيه إنسانية أكثر من بعض أبناء جلدتنا؟

إن معركة الوعي لا تقل أهمية عن معركة السلاح، وإذا كانت المقاومة في الميدان تواجه الطائرات والدبابات، فإن المقاومة الثقافية والإعلامية تواجه الكذب والتزييف والخيانة، ولعل أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية اليوم ليس فقط القصف والتهجير، بل هذا الانهيار الأخلاقي في صفوف من يفترض أنهم حراس الكلمة والضمير والقضية.

إن “شاتمي المقاومة” قد يملكون المنصات، لكنهم لا يملكون القلوب، والكلمة الصادقة، وإن حوصرت، تظلّ أصدق من ألف نشرةٍ كاذبة، وسيبقى صوت غزة، بصراخ أطفالها وصمود نسائها ودموع آبائها، أقوى من كل الأكاذيب المدفوعة الأجر، وسيأتي يومٌ يُسقط فيه الوعي جدار الزيف كما سقطت من قبل جدران الخوف، لأن الحق لا يموت حين يُهاجم، بل حين يُبرَّر الظلم باسمه.

إغلاق