اجتماعات اليوم التالي في القاهرة.. من يبحث عن شراكة ومن يبحث عن غنيمة

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول العراقيل التي تضعها السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح في دواليب مباحثات اليوم التالي التي تجري في القاهرة، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
في القاهرة، تدور نقاشات حول مستقبل غزة، حيث لا تقلّ هذه النقاشات خطورة عن القصف الذي دمّرها، فالمباحثات الجارية بين وفود الفصائل الفلسطينية تحت الرعاية المصرية، يفترض أن تضع الأسس لما يُسمّى بـ“اليوم التالي للحرب” أي اليوم الذي سيلي انتهاء آلة القتل الإسرائيلية، لكنّ ما يحدث على طاولة القاهرة يعكس واقع الانقسام الفلسطيني العميق، وتحديدًا دور السلطة الفلسطينية التي بدت وكأنها تضع العراقيل بدل أن تفتح الأبواب.
المصادر المتقاطعة من داخل تلك اللقاءات تؤكد أنّ ممثل حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية عبّر عن استيائه من غياب دور فاعل للسلطة في إدارة المرحلة المقبلة في غزة، وكأن همّ السلطة ليس في لملمة جراح الناس أو ضمان ألا يُعاد العدوان، بل في استعادة السيطرة الإدارية على القطاع بأي ثمن، السلطة طالبت، كما تسرّب، بأن يتولى وزير الصحة في حكومة رام الله ماجد أبو رمضان رئاسة لجنة إدارة غزة، في محاولة واضحة لتثبيت موطئ قدم سياسي وتنفيذي في قلب اللجنة التي اقترحتها القاهرة .
لكنّ الرد المصري كان حاسمًا: لا عودة للسلطة كطرف إداري مباشر، ودورها سيكون “شرعيًا فقط” ضمن مرجعية وطنية للجنة من أبناء القطاع، حيث جرى التوافق على أسمائها محليًا بمشاركة مختلف الفصائل بما فيها حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، هذا القرار المصري جاء بعد أن اختارت القاهرة قائمة أولية من أربعين اسمًا، ثم قلّصتها إلى ثمانية فقط، جميعهم من أبناء غزة الذين صمدوا فيها خلال الحرب، في خطوة هدفت إلى إغلاق الباب أمام الشخصيات التي غادرت القطاع أو تنتمي إلى دوائر السلطة البيروقراطية التي فقدت مصداقيتها في الشارع .
لكن السلطة لم تتوقف عند حدود الرفض المصري، إذ حاولت أن تتسلل من الباب الآخر: باب المال، فقد طالبت بأن تكون هي الجهة التي تحشد الدعم الدولي وتدير أموال إعادة الإعمار، غير أن القاهرة رفضت أيضًا هذا المقترح، مؤكدة أن مهمة التنسيق وجلب التمويل ستكون من اختصاصها، بصفتها الراعي الإقليمي للملف الفلسطيني، وبما يضمن عدم تحويل أموال الإعمار إلى وسيلة ابتزاز سياسي أو أداة لتغذية الفساد الذي التصق باسم السلطة منذ سنوات .
الحقيقة المؤلمة أن السلطة الفلسطينية لا تبحث عن شراكة وطنية بقدر ما تسعى لاستعادة نفوذها المالي والإداري المفقود في غزة، فهي تدرك أن إدارة الإعمار تعني إدارة النفوذ، وأن من يملك المال يملك الكلمة العليا في تشكيل البنية السياسية والاجتماعية للقطاع، لذلك كان رفض القاهرة قاطعًا: لا عودة إلى دوامة الفساد ولا إلى هيمنة الأجهزة البيروقراطية التي لم يعرف منها الشعب سوى التنسيق الأمني والتضييق على المقاومة .
الأخطر من ذلك أن ممثلي السلطة، خلال المداولات، أبدوا تأييدهم لشرط “نزع سلاح حماس”، وهو شرط إسرائيلي بامتياز، يتناقض تمامًا مع أي منطق وطني أو مفهوم للمقاومة، فبدل أن يكون همّ السلطة حماية سلاح المقاومة الذي ردع الاحتلال ومنعه من تحقيق أهدافه، نراها تنسجم مع الشروط الإسرائيلية والأمريكية التي تسعى إلى تجريد غزة من قوتها الوحيدة، بهذا الموقف، تكشف السلطة عن وجهها الحقيقي: سلطة تبحث عن رضا الغرب أكثر من رضا شعبها، وتقاتل من أجل السلطة لا من أجل وطن.
في المقابل، كانت قيادة حركة حماس أكثر وضوحًا في موقفها؛ فقد دعت حركة فتح إلى عقد لقاء وطني فلسطيني جامع يتم فيه التوصل إلى اتفاق رسمي حول آلية استلام السلطة إدارة الشأن المدني في غزة ضمن تفاهم وطني شامل، لكن فتح لم تستجب، لأنها لا تريد اتفاقًا يوزّع المسؤولية، بل تريد اتفاقًا يدع اموال الاعمار في يد سلطة فاسدة، ومنحها تفويضًا يعيدها كحاكم مطلق للقطاع، هكذا تتجلى المفارقة المؤلمة: من قاوم العدوان يريد شراكة، ومن لم يطلق رصاصة واحدة وتخلى عن غزة وتآمر ضدها يريد احتكار القرار .
جوهر الخلاف ليس إداريًا ولا فنّيًا، بل سياسي بامتياز، فالقاهرة تسعى إلى صيغة توازن تحمي مصالحها الإقليمية وتضمن استمرار الاستقرار في معبر رفح، بينما تريد واشنطن وتل أبيب ترتيبًا يضمن كسر شوكة المقاومة، في هذه المعادلة، وجدت السلطة نفسها أداة مناسبة لتمرير الشروط الإسرائيلية تحت غطاء “الشرعية الفلسطينية”، لكنها تغفل أن الشرعية تُستمد من الدم والتضحية لا من الاعتراف الدولي ولا من مقعد في اجتماع .
في نهاية المطاف، ما يجري في القاهرة ليس مجرد حوار حول لجنة إدارة مدنية، بل صراع على هوية غزة في اليوم التالي: هل ستكون غزة المقاومة الحرة التي دفعت أثمانًا باهظة لتبقى شوكة في حلق الاحتلال، أم ستكون غزة الخاضعة للبيروقراطية والفساد، التي تُدار من مكاتب رام الله؟.
السلطة، للأسف، تبدو وكأنها لم تتعلم شيئًا من التاريخ، فهي لا تزال تظن أن غزة يمكن أن تُحكم بالقرارات والرواتب، لا بالثقة والمصداقية، لكن أهل غزة الذين عانوا من الحصار والعدوان يدركون جيدًا أن من خانهم سياسيًا لن يبني لهم بيتًا بأمانة، وأن من برّر الاحتلال لن يكون شريكًا في الإعمار.
غزة لا تحتاج إلى حكومة تكنوقراط تُدار من بعيد، بل إلى مشروع وطني صادق يعيد الاعتبار للفلسطيني الذي يقاتل ويصمد ويبني، وكل من يظن أن بإمكانه اختزال غزة في ملف إداري أو حساب بنكي، سيكتشف سريعًا أن غزة التي قاومت العالم لا يمكن أن تخضع إلا لإرادة أبنائها .
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=96082
 
        



