طبائع الاستبداد في زمن السلطة الفلسطينية: اعتقال مهند كراجة

رام الله – الشاهد| خطت الكاتبة الفلسطينية نادية حرحش مقالاً حول جرائم السلطة الفلسطينية عبر ملاحقة النشطاء والمعارضين لها، والذين كان آخرهم المحامي مهند كراجة، الذي زورت له منشورات على منصات التواصل الاجتماعي واعتقل على إثرها، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
الاستبداد لو كان رجلًا لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة… ووطني الخراب — عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد.
يشكّل اعتقال المحامي مهند كراجة حلقة جديدة في مسارٍ متصاعد من تقييد الحريات العامة داخل الأراضي الفلسطينية. فقد عُرف كراجة، مدير مجموعة محامون من أجل العدالة، بدفاعه المستمر عن المعتقلين السياسيين منذ سنوات، ومثّل نموذجًا للمرافعة القانونية المبدئية في قضايا حرية الرأي والتعبير.
وقد ارتبط اسمه بشكل خاص بمتابعته الدقيقة لقضية نزار بنات، التي واصل حضورها ومرافعتها رغم تكرار تأجيل جلساتها على مدار أعوام. تعرّض كراجة في أكثر من مناسبة لحملات تشويه وتهديد بسبب نشاطه الحقوقي ومواقفه المنتقدة للانتهاكات، إلا أنّ اعتقاله الأخير استند إلى منشورٍ مفبرك نُسب إليه عبر حسابٍ إلكتروني وهمي يزعم تأييده للإعدامات في غزة. ورغم وضوح الطابع الملفّق للمنشور، أُحيل إلى النيابة العامة ووجّهت له تهمٌ تتعلق بـ«إثارة النعرات» و«نقل الأخبار بقصد إثارة الفزع»، استنادًا إلى مواد في قانون العقوبات لعام ١٩٦٠ وقانون الجرائم الإلكترونية لعام ٢٠١٨.
أصدرت مجموعة محامون من أجل العدالة بيانًا رسميًا أكدت فيه أنّ التوقيف تمّ على خلفية حملة «تحريض وتشهير منظمة » استهدفت كراجة والمجموعة معًا، وأنّ النيابة صادرت هاتفه وهويته وطلبت كلمات المرور لحساباته. ووصفت التهم بأنها باطلة ومبنية على أدلة رقمية مزوّرة سبق دحضها علنًا. وأعلنت أن كراجة بدأ إضرابًا مفتوحًا عن الطعام احتجاجًا على الإجراء، داعيةً المؤسسات الحقوقية والبعثات الدبلوماسية إلى متابعة القضية وضمان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان.
في بيان متزامن، أعرب ائتلاف النقابة للجميع عن قلقه العميق إزاء التوقيف، معتبرًا إياه «سابقة خطيرة» وداعيًا للإفراج الفوري عن كراجة وفتح تحقيق شفاف في ظروف احتجازه ومحاسبة المتورطين في فبركة المواد الرقمية.
كما طالب نقابة المحامين بتعليق العمل أمام المحاكم احتجاجًا على الاعتداءات المتكررة بحق المحامين والمدافعين عن الحريات. ويكشف هذا التوافق بين الموقفين الحقوقي والنقابي إجماعًا نادرًا على توصيف التوقيف كإجراء تعسفي يندرج ضمن سياسة أوسع لتكميم الأصوات المستقلة. قبل اعتقاله بأيام، نشر كراجة على صفحته بيانًا أوضح فيه أن نقابة المحامين وجهات أخرى أبلغته بصدور مذكرة استدعاء بحقه من الأجهزة الأمنية تُنفّذ فور عودته من السفر، إثر حملة بدأت في ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٥.
وأشار إلى أن منصات تحقّق وكاشف وتيقّن أثبتت فبركة المنشورات المنسوبة إليه، ومع ذلك استمرّ استهدافه نتيجة عمله الحقوقي المتواصل منذ خمسة عشر عامًا. هذا البيان، الذي سبق توقيفه، يوثّق وعيه المسبق بما كان يُحاك ضده، ويؤكد أن القضية ليست قانونية بل انتقام سياسي محسوب. تؤكد تقارير المؤسسات الثلاث المذكورة أن المنشورات التي استندت إليها النيابة مزوّرة بالكامل، وأنها استُخدمت ضمن حملة رقمية هدفت لتشويه سمعته.
كما صادرت الأجهزة الأمنية هاتفه وهويته، وأغلقت حساباته الإلكترونية، وأجّلت التحقيق معه دون توضيح. في المقابل، تصاعدت موجة تضامن شعبي واسعة عبر وسم #كلنا_مهند_كراجة مطالبة بالإفراج عنه وإنهاء الملاحقة. قبل اعتقاله بأيام قليلة، سجّل كراجة مقطعًا مصوّرًا قال فيه إنه تعرّض لمحاولات ابتزاز من جهات رسمية طالبته بإصدار بيان يدين حركة سياسية مقابل وقف الحملة ضده. يكشف هذا التسجيل أنّ توقيفه كان جزءًا من خطة مبيّتة لإسكات الأصوات المستقلة تحت غطاء القانون.
لم يعد القمع مجرّد اعتقالٍ على خلفية الانتماء السياسي كما كان في السابق. خلال جائحة كورونا تغيّر وجهه واتّسع مجاله. صار أكثر دقّة في اختيار ضحاياه، وأكثر قسوة في ملاحقة المختلفين. لم يَعُد يطال المعارضين السياسيين وحدهم، بل امتدّ إلى الصحافيين والمحامين وكلّ من تجرّأ على الكلام. تحت خطابٍ رسميٍّ يرفع شعار «الأمن والصالح العام»، جرى التحريض والملاحقة والتشهير والابتزاز، وكأنّ الخوف نفسه صار سياسة.
ومع الوقت، تحوّلت حالة الطوارئ من استثناءٍ مؤقّت إلى نظام حكمٍ دائم، وصار الوباء ذريعة لإغلاق المجال العام وإعادة رسم العلاقة بين المواطن والسلطة على مقاس الخضوع. منذ عام ٢٠٢٠ بدأت ملامح الانحدار تتضح. الترهيب الذي طال الكتّاب والحقوقيين لم يكن حوادث معزولة، بل بداية لمسارٍ جديد من القمع.
ما بدأ بتحذيراتٍ وحملات تشويهٍ تحوّل لاحقًا إلى عنفٍ علنيٍّ انتهى بقتل نزار بنات، لحظة انكشفت فيها المنظومة على حقيقتها: سلطةٌ لا تخفي وجهها بعد الآن، بل تشرّع الخوف وتدرّبه. وهكذا صار القمع جزءًا من الإيقاع اليومي، والسكوت لغة النجاة الوحيدة. لقد أصبحت هذه الممارسات جزءًا من المشهد، كأنها أمرٌ واقع لا يُدهش أحدًا. يُلاحق من يدافع عن الحرية، ويُحمى من يتورّط في الفساد أو يهرّب الأرض والتاريخ. الحصانة لم تَعُد استثناءً، بل أصبحت إعلانًا رسميًا.
في هذا القلب المقلوب، تتساوى العدالة مع الولاء. يُكافأ الصمت، وتُدان الكلمة. من يتمسّك بالمبدأ يُقصى، ومن يبيع المبدأ يُستدعى. وفي هذا العالم المقلوب يصبح الصمت مهارة بقاء، والمطالبة بالحق مغامرة تستحق العقاب. وكأنّ عبد الرحمن الكواكبي، بعد أكثر من قرنٍ على رحيله، يلخّص المشهد كله في جملة واحدة: »لقد تمحّص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورى الدستورية«.
لهذا، لا يمكن النظر إلى اعتقال مهند كراجة كحادثٍ فرديٍّ أو سوء تقدير. إنّه مرآةٌ لخللٍ أعمق ينخر في مؤسسات الحكم والمجتمع معًا. رمز لتحوّل العدالة من منظومةٍ قانونية إلى أداةٍ للهيمنة والسيطرة، ولتحوّل تهمة «الخيانة» من توصيفٍ قانونيٍّ إلى سلاحٍ رمزيٍّ لتصفية الأصوات التي تذكّرنا بالحقيقة. ما لا يفعله الاحتلال بوسائله القمعية، تفعله اليوم السلطة بأيدي أبنائها، بلا حاجة إلى مبرّر ولا خوف من سؤال.
ويظلّ صدى الكواكبي يلاحقنا: «الظالم سيفُ الله ينتقم به، ثم ينتقم منه»
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=96144





