الضفة الغربية تُدار من التلال.. والمستوطنون الحاكم الفعلي للأرض

الضفة الغربية تُدار من التلال.. والمستوطنون الحاكم الفعلي للأرض

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول الاعتداءات المتصاعدة للمستوطنين بالضفة الغربية، والتي أصبحت حرباً يومية ومتواصلة منذ أكثر من عامين، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

يتجوّل المستوطنون في الضفة الغربية وهم يحملون السلاح بغطاء رسمي من جيش الاحتلال، يتلقّون تدريبات عسكرية منظمة، ويملكون صلاحيات واسعة تتجاوز تلك الممنوحة للشرطة أو للجيش في كثير من الأحيان، فهم قادرون على احتجاز فلسطينيين، وفرض منع التجوال، وإغلاق مناطق بأكملها، وإشعال الحرائق في القرى والمزارع، وقتل من يشاؤون دون مساءلة، ومع مرور الوقت، لم يعودوا مجرد مدنيين مسلحين يعيشون في المستوطنات، بل أصبحوا بمثابة سلطة محلية عسكرية، تمارس الحكم الفعلي على الأرض وتفرض إرادتها في محيطها، حتى بات يقال إن الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم ليس الحاكم العسكري الإسرائيلي بل قادة ميليشيات المستوطنين أنفسهم .

في السنوات الأخيرة، أخذت هذه الميليشيات طابعًا مؤسسيًا واضحًا، فالدعم لم يعد يأتي من جمعيات يمينية متطرفة فقط، بل من وزراء في الحكومة وأعضاء كنيست مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، اللذين يشرفان مباشرة على تشكيل وتسليح ما يسمى “كتائب الحراسة” أو “حراس المستوطنات”، وهي أطر منظمة تتلقى تدريبها وسلاحها من الجيش لكنها تعمل باستقلال ميداني يكمل الادوار المنوطة في الجيش، ويفرض واقعًا جديدًا في الضفة عنوانه “حكم المستوطنين”، وهكذا تحولت المستوطنات إلى معاقل أمنية مغلقة، تمتلك شرطة خاصة وجيشًا صغيرًا، يتصرف باسم “الأمن القومي الإسرائيلي” لكنه في الجوهر ينفذ أجندة أيديولوجية استيطانية تهدف إلى طرد الفلسطينيين والسيطرة الكاملة على الأرض.

الجيش الإسرائيلي نفسه بات في موقع المساند لهذه الميليشيات أكثر من كونه الجهة التي تضبطها، فكل عملية اعتداء أو اقتحام ينفذها المستوطنون تُغطّى ميدانيًا من وحدات الجيش التي تفرض الطوق على القرى الفلسطينية وتمنع الأهالي من الدفاع عن أنفسهم، وتتحول العلاقة بين الطرفين إلى نوع من تقسيم الأدوار، حيث يتولى الجيش حماية المستوطنين، ويتولى هؤلاء تنفيذ الأعمال القذرة من اعتداءات وحرق ومصادرة أراضي، ومن الاعتداءات على المزارعين، في حين تبقى الحكومة الإسرائيلية في موقع المتفرج الذي يدّعي عدم السيطرة، بينما هي من تغذي هذا الفلتان وتديره خلف الكواليس .

ولم تعد التساؤلات حول خطورة هذه الظاهرة مقتصرة على الفلسطينيين أو النشطاء الحقوقيين، بل بدأ بعض القادة الأمنيين الإسرائيليين السابقين يحذرون من أن “ميليشيات المستوطنين” تتطور لتصبح قوة مستقلة تهدد هيبة الجيش نفسه وتضعف اي استقرار هش في الضفة الغربية، فقد تحوّل الولاء داخل المؤسسة العسكرية في بعض المناطق إلى ازدواجية خطيرة بين الانتماء للجيش والانتماء للأيديولوجيا الدينية القومية المتطرفة، ما يخلق صراعًا داخليًا قد يفجّر المؤسسة الأمنية من الداخل في المستقبل.

أما السلطة الفلسطينية، فهي تتابع المشهد بعجز واضح، لا تملك القدرة على ردع هؤلاء المستوطنين ولا حتى على حماية شعبها من بطشهم، إذ أصبحت أي محاولة للمواجهة أو الدفاع عن القرى تُعدّ خروجًا عن “التنسيق الأمني” المقدس، وتُقابل بغضب إسرائيلي يهدد بوقف الامتيازات الشخصية أو تضييق الخناق المالي والسياسي، وهكذا باتت السلطة تخشى المستوطنين أكثر مما تخشاهم القرى الفلسطينية، لأنها تدرك أن سخطهم يمكن أن يفقدها “الرضا الإسرائيلي” الذي يشكّل شرط بقائها في المعادلة.

النتيجة أن الضفة الغربية تُدار اليوم بنظام مزدوج، جيش يحتفظ بالسيادة الشكلية، وميليشيات مستوطنين تمسك بالسيطرة الفعلية على الأرض، إنها حالة من الفوضى المنظمة التي صممتها إسرائيل بعناية لتفكيك أي إمكانية لوجود دولة فلسطينية فاعلة أو سيطرة مدنية فلسطينية على الأرض، فبينما يتحدث العالم عن “وهم حل الدولتين” و“المفاوضات العبثية”، تعمل إسرائيل على خلق واقع استيطاني محصّن يجعل من الضفة الغربية كيانًا ممزقًا، محكومًا بعشرات الميليشيات الصغيرة التي تمثل اليمين الديني المتطرف، لتتحول الأرض إلى مزيج من القواعد العسكرية والمستوطنات المسلّحة، وتختفي فكرة الدولة الفلسطينية من الوعي والواقع معًا.

في النهاية، فان ميليشيات المستوطنين لم تعد تجاوزات فردية أو انحرافات عن القانون، بل أصبحت مشروعًا سياسيًا مكتمل الأركان تديره الدولة العميقة في إسرائيل لفرض واقع “إسرائيل الكبرى” دون إعلان رسمي، وهي الوجه الجديد للاحتلال، حيث تختبئ الدولة خلف المستوطن، ويتحوّل القاتل إلى حاكم، ويُشرعن العنف باسم الأمن والعقيدة، وهكذا يبقى الفلسطيني محاصرًا بين جيشٍ يقتله بزيّ رسمي وميليشيا تقتله بغطاء رسمي، في مشهدٍ يتواطأ معه الصمت الدولي، فيما تواصل السلطة ارتهانها لوهمٍ لم يبقَ منه سوى السراب.

إغلاق