الهدم والتهجير في الضفة والقدس.. وجه آخر لحرب الإبادة في غزة

 الهدم والتهجير في الضفة والقدس.. وجه آخر لحرب الإبادة في غزة

رام الله – الشاهد| كتب اسماعيل الريماوي: بينما انشغلت أنظار العالم بمشاهد الإبادة المفتوحة في قطاع غزة، تتواصل حربٌ أخرى بصمت في الضفة الغربية وشرقي القدس.

حرب بلا دخان لكنها لا تقل فتكًا، تُنفذ بالجرافات بدل الصواريخ، وبأوامر عسكرية بدل القنابل، بقتل الأطفال، بالاعتقالات والاقتحامات اليومية، الهدف واحد: تفريغ الأرض من أهلها وإحلال مستوطنين مكانهم في سياق سياسة تطهير عرقي ممنهجة تمضي بخطى واثقة نحو تحويل ما تبقى من فلسطين إلى خرائط بلا شعب.

في شمال الضفة، لا سيما في مخيمات جنين وطولكرم، تتكرر مشاهد الهدم والدمار التي اعتاد الفلسطينيون رؤيتها في غزة، منازل تُسوّى بالأرض، عائلات تُطرد من بيوتها، وآلاف المواطنين، بينهم نساء وأطفال، يُهجّرون قسرًا من مخيماتهم المدمرة نحو مصيرٍ مجهول، حتى بلغ عدد المهجرين الى الآلاف في الأشهر الأخيرة، في عملية تهدف إلى كسر البنية المجتمعية للمخيمات التي ظلت عنوانًا للمقاومة والصمود.

وفي الأغوار الممتدة من جنوب بيسان حتى الخليل، تتجسد خطة إسرائيل القديمة الجديدة لتفريغ المنطقة من سكانها البدو والتجمعات الزراعية، وجمعهم في بقع محدودة بعيدة عن مصادر المياه والزراعة والرعي، تمهيدًا لضم المنطقة عمليًا ضمن ما يُعرف بخطة ألون المعدلة، حيث لا مكان للعرب في الجغرافيا الجديدة، بل تُرسم خرائط إسرائيل الكبرى على أرض خالية من أصحابها.

هذه السياسة التي تجمع بين الهدم والتهجير والمصادرة والاستيطان لا يمكن فصلها عن منطق الحرب الشاملة على الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، فبينما يُقتل الفلسطيني في غزة بالنار، يُمحى وجوده في الضفة بالهدم والإقصاء، والنتيجة في الحالتين واحدة: اقتلاع الفلسطيني من أرضه، وفرض واقع استيطاني لا عودة منه إلا بانتهاء الاحتلال.

قانونيًا، ما يجري في الضفة والقدس يُعد جريمة حرب بموجب اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري وتدمير الممتلكات في الأراضي المحتلة.

لكن إسرائيل تمارس هذه الانتهاكات تحت غطاء أمني وسياسي وفّرته الولايات المتحدة وصمت المجتمع الدولي، رغم أن محكمة العدل الدولية أقرت في يوليو 2024 بعدم شرعية الاحتلال ودعت إلى إنهائه فورًا ووقف الاستيطان، إلا أن القرارات الدولية بقيت حبرًا على ورق أمام عناد القوة وازدواجية المعايير.

أما الفلسطينيون، فينظرون إلى تلك القرارات كمكسب معنوي يثبت حقهم التاريخي والقانوني، لكنهم في الوقت ذاته يدركون أن العدالة الدولية بلا إرادة سياسية تبقى عاجزة أمام آلة الاحتلال التي تمارس الإبادة بوسائل مختلفة، فالقصف في غزة والهدم في القدس والتهجير في الأغوار حلقات متصلة في مشروع واحد عنوانه تفريغ الأرض والسيطرة عليها بالكامل .

وهكذا، يتضح أن ما يجري في الضفة الغربية والقدس ليس مجرد خروقات متفرقة، بل امتداد طبيعي لحرب الإبادة الدائرة في غزة، حرب تسعى إلى إنهاء الوجود الفلسطيني كحقيقة بشرية وجغرافية وتاريخية، وتستبدله بخريطة استعمارية جديدة تُعيد إنتاج النكبة بأساليب القرن الحادي والعشرين، حيث لم تعد الدبابات وحدها وسيلة الاحتلال، بل الجرافات والقوانين والمستوطنون الذين يكتبون على الأرض فصول النكبة المستمرة.

إن ما يجري اليوم في الضفة الغربية والقدس ليس مجرد فصولٍ معزولة من المأساة الفلسطينية، بل هو الامتداد الطبيعي لحرب الإبادة المفتوحة على الوجود الفلسطيني بكل أشكاله، حرب تُنفّذ بأدوات مختلفة لكن بغاية واحدة: محو الشعب لا المكان، وكسر إرادة الصمود التي بقيت عصيّة على الكسر منذ النكبة الأولى.

ولأنّ التاريخ علّمنا أن الشعوب لا تُمحى بالجرافات ولا تُباد بالقرارات، فإنّ الفلسطيني الذي يقف فوق أنقاض بيته اليوم، هو ذاتُه الذي سيعيد بناء الحجر، ويحفظ ذاكرة الأرض من النسيان، ويحوّل الركام إلى شهادة ميلادٍ جديدة لفلسطين التي لا تموت.

إغلاق