استيطان بلا أقنعة.. حرب وجود مفتوحة على الأرض والإنسان

استيطان بلا أقنعة.. حرب وجود مفتوحة على الأرض والإنسان

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول تصاعد الاستيطان في الضفة الغربية، والخطوات المتسارعة لضمها في ظل حكومة فاشية، وسط عجز وصمت عربي ودولي، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

ما يجري في الضفة الغربية لم يعد حدثًا أمنيًا ولا تصعيدًا ظرفيًا في سلوك الاحتلال، بل هو انتقال محسوب إلى طور حاسم في المشروع الصهيوني، حيث يُعاد تعريف الأرض والإنسان والزمان ضمن معادلة استعمارية جديدة ترى أن الآن هو الفرصة والحظة المناسبة لإغلاق ملف الدولة الفلسطينية إلى الأبد، عبر ما يمكن تسميته بالاستيطان الشامل بوصفه أداة سيادية بديلة عن أي تسوية سياسية.

الاستيطان هنا لا يعمل كامتداد طبيعي للاحتلال بل كبديله الأكثر تطورًا إذ تتحول المستوطنة من كيان طفيلي على الجغرافيا الفلسطينية، إلى مركز ثقل ديموغرافي واقتصادي وأمني يعيد تشكيل المجال الحيوي برمّته، فالتضاعف غير المسبوق في عدد البؤر الاستيطانية ليس مؤشرًا على الفوضى بل دليل على سياسة مدروسة، تقوم على إنتاج أمر واقع متسارع قبل أن تتغير موازين الإقليم أو تتبلور ضغوط دولية جديدة.

تسعى إسرائيل اليوم إلى ما هو أبعد من السيطرة على الأرض، فهي تعمل على إعادة هندسة الضفة الغربية كفضاء مجزأ بلا وحدة داخلية عبر شبكة معقدة من الطرق الالتفافية والحواجز والجدار العازل، بما يحول المدن الفلسطينية إلى وحدات سكانية معزولة لا تمتلك شروط التطور ولا أدوات السيادة، وبذلك لا يعود الحديث عن دولة فلسطينية سوى صيغة لغوية بلا مضمون جغرافي أو اقتصادي .

في هذا السياق يصبح الهدف الديموغرافي محور المشروع، إذ لا تخفي الحكومات الإسرائيلية نيتها استيعاب ما بين مليون إلى مليوني مستوطن إضافي في الضفة الغربية بما يفضي إلى توازن عددي قسري بين المستوطنين والسكان الأصليين، وهو توازن لا يُراد له أن يكون تعايشًا بل أداة لشرعنة الضم وفرض السيادة الإسرائيلية تحت ذريعة الواقع السكاني الجديد.

ولا يمكن فصل هذا التوجه عن سياسة تسمين المستوطنات وتحويلها إلى مدن كبرى مرتبطة مباشرة بالمركز الإسرائيلي، بينما يُدفع الفلسطيني إلى هامش اقتصادي خانق عبر مصادرة الأراضي الزراعية وتجفيف الموارد وحرمان المزارعين والرعاة من الوصول إلى أراضيهم، في عملية تفريغ صامت تهدف إلى كسر علاقة الإنسان بأرضه قبل طرده منها فعليًا .

وتكتسب ملاحقة رعاة المواشي والتجمعات البدوية دلالة خاصة في هذا الإطار، إذ تشكل هذه المناطق العمق الجغرافي المفتوح الذي يسعى الاحتلال إلى السيطرة عليه لأنه يمثل الحلقة الأضعف في منظومة الحماية السياسية والقانونية الفلسطينية، ومن خلال الاستيلاء عليه تُفتح الطريق أمام تمدد استيطاني لاحق يتحول فيه المؤقت إلى دائم والعشوائي إلى رسمي .

وقد شكّلت حرب الإبادة على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 فرصة استراتيجية نادرة لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة لإطلاق يدها في الضفة الغربية، مستفيدة من انشغال العالم بالمجازر والدمار في القطاع لتنفيذ مخططات التهويد والضم بأقل قدر من الضجيج السياسي، في لحظة تلاقت فيها الرغبة الإسرائيلية مع العجز الدولي عن الفعل .

الخطير في المشهد أن هذا التوسع الاستيطاني لا يواجه فقط بصمت دولي، بل بفراغ سياسي وانقسام فلسطيني يسمح للاحتلال بتقديم نفسه كطرف يفرض الوقائع على الارض، فيما يغيب الطرف الآخر عن معركة الوجود الحاسمة، فغياب استراتيجية فلسطينية موحدة يجعل الاستيطان يتحول من تحدٍ سياسي إلى قدر مفروض.

وعلى المستوى القانوني يشكل ما يجري انتهاكًا فجًا لكل قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، إلا أن الاحتلال يدرك أن القانون بلا قوة ردع يتحول إلى نص أخلاقي معطّل، وهو ما شجعه على الذهاب أبعد في تكريس نظام فصل عنصري مكتمل الأركان يقوم على التمييز البنيوي بين المستوطن بوصفه مواطنًا كامل الحقوق، والفلسطيني بوصفه عبئًا ديموغرافيًا يجب احتواؤه أو إزاحته .

إن الاستيطان في جوهره ليس مجرد سياسة توسعية، بل هو مشروع إحلالي يسعى إلى إنهاء الصراع عبر إلغاء أحد أطرافه من الجغرافيا والتاريخ معًا، ومواجهته لا يمكن أن تتم بخطاب إنشائي أو ردود فعل متفرقة، بل تتطلب معركة شاملة، تبدأ بإعادة بناء الوحدة الفلسطينية وتفعيل الاشتباك القانوني والدبلوماسي والدولي، وتثبيت الإنسان في أرضه كفعل مقاومة يومي .

فالصمت الدولي والتراخي الفلسطيني لا يعنيان سوى منح الاحتلال الوقت الكافي لتحويل الاستيطان إلى حقيقة نهائية لا تقبل التراجع، وعندها لن يكون السؤال عن شكل الدولة الفلسطينية بل عن كيفية إنقاذ ما تبقى من الوجود الفلسطيني ذاته .

ولا يكتمل فهم المشهد الاستيطاني في الضفة الغربية من دون التوقف عند اعتداءات المستوطنين، التي لم تعد سلوكًا فرديًا أو انفلاتًا خارج السيطرة، بل تحولت إلى أداة منظمة ومتكاملة ضمن منظومة الاحتلال، حيث يجري توظيف العنف اليومي ضد الفلسطينيين كوسيلة تهجير غير معلنة، تُنفّذ على الأرض بأيدي المستوطنين وتُحمى وتُغطّى من قبل جيش الاحتلال ومؤسساته .

اعتداءات المستوطنين على القرى والمزارع والحقول وحرق المنازل والمركبات، والاعتداء على الأهالي والرعاة، ليست سوى شكل من أشكال الإرهاب الاستيطاني، الذي يهدف إلى كسر إرادة الصمود ودفع الفلسطيني إلى الرحيل القسري دون الحاجة إلى قرارات رسمية بالتهجير، فالعنف هنا يؤدي وظيفة سياسية واضحة تقوم على تفريغ الأرض من أصحابها، وتحويل الخوف إلى أداة لإعادة رسم الخريطة السكانية .

في هذا السياق يتحول المستوطن إلى ذراع تنفيذية للمشروع الاستعماري، حيث يقوم بالدور القذر الذي لا تريد الدولة الإسرائيلية أن تتحمله علنًا، بينما تتكفل المؤسسة العسكرية بتوفير الحماية وتقييد الضحية، بدل محاسبة الجاني، وبذلك يصبح الاعتداء جزءًا من سياسة ممنهجة لإجبار الفلسطيني على التخلي عن أرضه تحت وطأة التهديد المستمر وانعدام الأمان .

ومع تراكم هذه الاعتداءات اليومية  تتآكل قدرة التجمعات الريفية والبدوية على البقاء، إذ يُدفع السكان إلى النزوح الداخلي القسري تاركين خلفهم أراضيهم، التي سرعان ما تتحول إلى مناطق مغلقة أو بؤر استيطانية جديدة في حلقة متكاملة من العنف والاستيطان والضم الصامت.

إن التغاضي الدولي عن إرهاب المستوطنين لا يقل خطورة عن الصمت على الاستيطان ذاته، لأنه يمنح الاحتلال أداة فعالة ومنخفضة الكلفة لتحقيق أهدافه التهجيرية دون ضجيج سياسي، ويؤكد أن ما يجري في الضفة الغربية ليس صراعًا على الأمن، بل عملية اقتلاع ممنهجة تهدف إلى تصفية الوجود الفلسطيني لصالح مشروع استعماري إحلالي لا يتوقف عند حدود الأرض، بل يستهدف الإنسان ذاته.

إغلاق