سياسة الترف بعد الفقر.. هندسة الوعي وتغيّر الغايات

رام الله – الشاهد| كتب بشار مرشد: مقدمة: من القهر إلى الترف:
في التاريخ الحديث، لم يعد القهر يُمارس بالعصا فقط، بل أحيانًا يُدار بالسكر. الجوع يولّد الثورة، بينما الترف الجزئي يولّد الطاعة الصامتة.
حين يُغرق المجتمع في فقرٍ خانق، يُستنزف وعيه الجمعي حتى لا يرى أبعد من رغيف الخبز، ثم يُعاد إنعاشه بجرعات محسوبة من الراحة الاقتصادية، فيظن أنه استعاد حياته، بينما هو في الحقيقة استبدل الحلم بالاعتياد.
المشروع الوطني أو الحلم الجماعي يتحول إلى مطلب يومي: راتب، استقرار، حرية حركة. ليس لأن الناس خانوا أهدافهم، بل لأن وعيهم أُعيد تشكيله بعناية، لتصبح احتياجات الجسد أولوية، والعقل رهينها.
الترف كأداة للسيطرة:
السياسة هنا لا تدير الموارد فقط، بل الوعي نفسه. ضخ المال في السوق، فتح المعابر، صرف الرواتب، وتنظيم المهرجانات، لا يكون هدفه إنعاش الاقتصاد، بل إعادة بناء الولاء والطاعة.
الإعلام يعيد تعريف “النجاح” ليصبح استقرار الأسعار أو توفير الرغيف، لا تحقيق السيادة أو العدالة. الطموح يتحوّل من مشروع تحررٍ إلى مشروع استهلاك، ومن سؤال المصير إلى سؤال الدخل اليومي.
تزوير صوت الناخب:
التغيير في الأولويات يعني تزوير الصوت الحقيقي للناخب. ربط الأصوات بالمزايا المعيشية، تضخيم القضايا اليومية، وتقزيم المشاريع الوطنية الكبرى، يضمن انتخاب من يوفر “راحة آنية” بدل من يحقق الحلم الأسمى.
تتحوّل الانتخابات تحت هذه الظروف إلى انتخابات خدمية كالبلديات. لا يمكنك أن تطلب من جائع وعطشان أن يبني لك قصراً، ولا أن يقيم مؤسسات بعيدة المدى. الجسد يفرض الأولويات، والعقل مُكبَّل.
العقل والجسد والمسؤولية:
الفرق بين الكتابة والتحليل من جهة، والواقع من جهة أخرى، يكمن في أن العقل يستطيع تصور الهدف الأسمى، بينما الجسد يتطلب تلبية احتياجاته الفسيولوجية أولًا.
حين يعجز المواطن عن تلبية هذه الاحتياجات، يصبح اختياره محكومًا، وليس حرًا. المسؤولية تقع على من يملك القدرة والموارد، لا على عامة الشعب. المواطن ليس مُذنبًا؛ جسده يفرض عليه أولوياته، والعقل رهينها.
بحبوحة اقتصادية مقابل الحرية:
حين يتحقق بعض التحسن المادي، أو ما يمكن أن نسميه البحبوحة الاقتصادية، يشعر المجتمع ببعض الارتياح، لكنه ليس حراً. تتحوّل هذه البحبوحة إلى وسيلة لتثبيت الوضع القائم، وإعادة ترتيب أولويات الناس بعيدًا عن الهدف الأسمى، أي الحرية وتقرير المصير. يصبح الحصول على الراحة المؤقتة هدفًا بديلاً، بينما يُخفى عن الناس أن هذا التغيير في الأولويات جزء من هندسة السيطرة.
خاتمة: الوعي في مواجهة الزمن وتغير الأجيال
سياسة الترف بعد الفقر ليست مجرد توزيع للثروات، بل هي أداة لإدارة الوعي ولإعادة ترتيب الأولويات عبر ابتزاز المواطن بذاكرته القريبة من الفقر. تتحول الراحة النسبية إلى غاية بديلة، ويختار المواطن ما يرضي جسده قبل عقله، والمسؤولية عن هذا التزييف تقع على المتحكمين.
لكن هذه الهندسة للوعي تبقى مرحلة مؤقتة وهشة. فمتى شعر الإنسان بالبحبوحة كوضع مستقر، يبدأ سقف طموحه بالارتفاع، وتتحول مطالبه من مجرد الرغيف إلى العدالة والمشاركة. والأهم من ذلك، أن تعاقب الأجيال يقوّض هذه السيطرة؛ فالجيل الذي لم يعش قهر الفقر لا يرى في البحبوحة مَنَّة، بل حقاً مكتسباً. هذا الجيل لا يحمله الخوف، وبالتالي يمتلك وعياً متحرراً أقرب إلى الهدف الأسمى.
الدرس الأهم هو أن الحرية وتقرير المصير لا يمكن احتواؤهما للأبد. استعادة الوعي تبدأ بالإدراك أن الترف الجزئي هو وسيلة احتواء مؤقتة، وأن الزمن والتغير الاجتماعي هما أكبر محركين لتحرير العقل من رهن الجسد، ليعود البحث عن الرفاهية وسيلة لتحقيق الحرية، لا بديلًا عنها.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=96340





