حين يسرق الوزير.. ويُسجن الموظف
رام الله – الشاهد| كتب يحيى بركات: في الوقت الذي تُعلن فيه السلطة الفلسطينية عجزها المالي، وتدعو شعبها إلى الصبر، تفتح النيابة العامة تحقيقًا واسعًا في ملفات فسادٍ مالي وإداري، تطال وجوهًا كبيرة في هرم السلطة.
وزيرٌ موقوف عن العمل بتهمة تلقي رشاوى واستغلال المنصب، ورئيس هيئة معابرٍ وحدودٍ يقيم خارج الوطن وتُرفع السرية عن حساباته البنكية.
هذه ليست إشاعات، بل وقائع مؤكدة ضمن حملة إصلاحٍ حكومية طال انتظارها.
وزير النقل والمواصلات طارق زعرب يخضع حاليًا للتحقيق في رام الله لدى نيابة مكافحة جرائم الفساد، بعد أن كشفت التحقيقات شبهات تتعلق بمنح تراخيص وموافقات بصورة مخالفة للإجراءات الرسمية.
الوزير لم يهرب، بل وُقِف عن العمل رسميًا، وأُحيلت وزارته إلى إشراف مؤقت لضمان استمرار مهامها.
أما الهارب الحقيقي، فهو نظمي مهنا، رئيس هيئة المعابر والحدود السابق، الذي غادر البلاد إلى ألبانيا قبل أسابيع من تفجر فضيحة تهريب الآثار، ولا يزال يردّ على الاتهامات عبر بياناتٍ يصدرها من الخارج وكأنه ما زال في موقعه.
النيابة العامة فتحت ملفه على مصراعيه: تحفظ على أمواله المنقولة وغير المنقولة، ورفعت السرية المصرفية عن حساباته وحسابات أفراد عائلته ومقربين منه، وشملت الإجراءات ستة عشر اسمًا من ضمنهم زوجته وأبناؤه وسفيرٌ سابق ورجال أعمال وموظفون من دائرته المالية.
ملفٌ لم يعد يُدار بالهمس، بل بالقرارات القضائية الموثقة.
ومع كل ذلك، يبقى الموظف البسيط الذي لا يعرف في حياته سوى طابور البنك وفاتورة الكهرباء في مرمى القانون.
هو لم يتلقَّ راتبه منذ أشهر، ومع ذلك يُستدعى إلى المحكمة بتهمة “عدم السداد”.
الديون تتراكم، الفوائد تتضاعف، القروض تبتلع ما تبقّى من دخله، والمدارس تطالب بالأقساط، وشركات الاتصالات بالكلفة، والماء والكهرباء بالقطع.
فيُصبح العجز جريمة، بينما الفساد يصبح خبرًا في نشرات الأخبار.
أي مفارقة هذه؟
من يختلس الملايين يُحاط بلجان التحقيق، ومن يعجز عن دفع فاتورة يُحاط برجال الشرطة.
هكذا تتحول العدالة إلى ميزانٍ مختلٍّ لا يقيس بالحق، بل بالقدرة على النفوذ.
ليست الكارثة في أن الفساد موجود، بل في أنه يُدار كروتينٍ إداري.
أن يظل في كل وزارة أو هيئة “نظمي مهنا” يرث الموقع كما تُورث الأملاك.
أن تبقى المعابر مصدر ثراءٍ خاص بدل أن تكون شريان حياةٍ عام.
أن يُسجن الفقير لأنه جائع، ويُكافأ الغني لأنه “بارع في الاحتيال”.
حين تتعفن البنية من الداخل، لن تنفع القروض ولا المساعدات.
الأزمة ليست مالية فحسب، بل أخلاقية، وإدارية، وسياسية.
فالذي يسرق باسم المنصب لا يختلف عن الذي يبيع الوطن باسم الشعارات.
وحين يصبح الجوع أداة حكمٍ، لا أداة ضغطٍ من الخارج، تكون السلطة قد فقدت معناها.
إن كشف الفساد ليس تشهيرًا، بل دفاعٌ عن حق الناس في الحياة.
الشعب لا يريد معجزات، يريد فقط أن يرى من سرق يُحاسب، ومن جاع يُنصف، لا العكس.
المال المسروق ليس أرقامًا، بل أعمارًا مسروقة، وأيامًا من صبرٍ مهدور، وأبناءً ينتظرون قسط المدرسة كما ينتظر الجندي راتبه في آخر الشهر.
آن الأوان أن يُصدر الرئيس أو مجلس الوزراء مرسومًا وطنيًا عاجلًا يوقف كل إجراء قانوني ضد المواطنين الذين تعثروا في سداد شيكات، قروض سكن، أو فواتير
طالما كان السبب هو عدم حصولهم على رواتبهم أو حقوقهم المالية من الدولة.
فالذي لم يتقاضَ أجره لا يمكن أن يُعاقَب على العجز، لأن العجز ليس جريمة، بل نتيجة ظلمٍ رسميٍّ واضح.
ومن العدل أن يُعفى المظلوم من تهمةٍ صنعها الظالم.
لكن على من في مواقع القرار أن يدركوا أن للصبر حدودًا،
وأن الشعب الذي صبر على الاحتلال والحرمان لن يصبر إلى الأبد على فسادٍ من داخله.
فحين يتجاوز الجوع الكرامة، تسقط المبررات، وتبدأ مرحلة الحساب.
الصبر جميل، نعم…
لكن حين يُستنزف الشعب، يصبح الصبر نفسه شكلًا من أشكال المقاومة.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=95061