الإصلاح أو الارتهان.. حين يتحول الفساد إلى أداة استعمار ناعمة

رام الله – الشاهد| كتب محمد التاج: في فلسطين، لم يعد الفساد مجرد خلل إداري أو تجاوز فردي هنا وهناك، بل أصبح سلاحا خفيا ينهش في جسد القضية الوطنية من الداخل. لم يعد الفساد فقط في المال العام أو الوظيفة، بل في المفهوم ذاته: كيف يمكن لشعبٍ يرزح تحت الاحتلال أن يصلح نفسه بشروط المحتل أو برعاية من يستثمر في ضعفه؟.
الفساد في المجتمع الفلسطيني ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تراكم طويل من غياب المساءلة، ومن تغول المصالح الشخصية على المصلحة الوطنية، ومن خضوع القرار السياسي والاقتصادي لمعادلات المانحين بدلا من حاجات الناس. لقد نجح الاحتلال في بناء منظومة فساد غير مباشرة، تزرع الانقسام، وتشتري الولاءات، وتفكك الثقة بين المواطن ومؤسساته، حتى بات الفلسطيني يشك بكل شيء: في الزعيم، في الحزب، في النقابة، في الوظيفة، بل حتى في الفكرة نفسها.
إن أخطر ما في الفساد أنه لا يسرق المال فقط، بل يسرق المعنى. يسرق من الناس الإيمان بأن التغيير ممكن، ويحول المؤسسات الوطنية إلى هياكل خاوية تحمي الفاسدين أكثر مما تحمي الناس. فالفساد لا يعيش في الظلام فقط، بل يعيش في الضوء حين يبرر، وحين تسمى المجاملة “مرونة”، ويسمى السكوت “حكمة”، ويسمى الخضوع “واقعية سياسية”.
ولذلك، حين يطرح ملف “الإصلاح” في فلسطين، علينا أن نسأل: إصلاح لمن؟ ولماذا الآن؟ ومن الذي يحدد معاييره؟
إن الإصلاح الذي يكتب في عواصم الغرب، أو يمول بشروط سياسية واقتصادية تهدف إلى إعادة تشكيل النظام الفلسطيني بما يخدم مشاريع “السلام الاقتصادي”، ليس إصلاحا بل إعادة صياغة للهيمنة بأدوات ناعمة. الإصلاح الحقيقي لا يملى من الخارج، بل ينبع من إرادة الداخل، من حاجة المجتمع نفسه إلى النهوض، من وجع الناس الذين سرقت أحلامهم، ومن جوع الموظف والعامل والأسير واللاجئ.
حين يطالبنا الغرب بالإصلاح، فهو لا يقصد تطهير المؤسسات من الفساد، بل يقصد ترويضها لتقبل دورها الجديد في “إدارة” الاحتلال بدلا من مقاومته. يريدون “حكومة نظيفة” لا تسرق المال، لكنها تقبل أن يسرق الوطن. يريدون “شفافية مالية”، ولكن لا يريدون “شفافية سياسية” تكشف من يقرر مصيرنا ومن يقيد خياراتنا.
الفساد الحقيقي اليوم هو أن يرفع شعار الإصلاح لخدمة أجندات المانحين، لا المصلحة الوطنية. أن يتحول التمويل إلى أداة ضغط، وأن تتحول المساعدات إلى قيود. أن يكافأ المطيعون بالعطايا، ويعاقب الأحرار بالتجويع. هذه ليست إصلاحا، بل تطبيع داخلي مع واقع الانقسام والتبعية.
الإصلاح المطلوب فلسطينيا لا يقاس بعدد الورش والمؤتمرات ولا بعدد التقارير الممولة. الإصلاح يعني إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته. يعني أن تكون الوظيفة العامة لخدمة الناس لا لخدمة الحزب أو التيار. يعني أن تعاد هيبة القانون لا لخدمة الأقوياء بل لحماية الضعفاء. يعني أن نعيد توجيه البوصلة: من الرضا بالواقع إلى تغييره، ومن التعايش مع الاحتلال إلى مقاومته.
إننا بحاجة إلى إصلاح يبدأ من الفكرة قبل البنية، من القيم قبل القوانين. إصلاح يعيد تعريف الوطنية لا ككلمة تقال في المناسبات، بل كمسؤولية يومية في السلوك والموقف. لا يمكن أن نحارب الفساد ونحن نساوم على الحقيقة، ولا يمكن أن نبني وطنا حرا بأدوات الفاسدين أو بشروط الغير.
لقد آن الأوان أن نعلن بوضوح: نريد إصلاحا يصون القرار الوطني لا يبيعه، ويخدم الشعب لا المانحين، ويستمد شرعيته من الألم الفلسطيني لا من رضا السفارات.
الإصلاح الذي نريده لا يبدأ من الأعلى، بل من القاعدة الشعبية التي تعبت من الأكاذيب. من الموظفين الذين لم يتقاضوا رواتبهم، من العمال الذين يقتلون على الحواجز، من الأسرى الذين ينتظرون الحرية، من الأمهات اللواتي ينتظرن عدلا .. لا يأتي.
الفلسطيني اليوم لا يريد شعارات جديدة، بل نظاما نظيفا يحترم دمه وعرقه وتعبه. يريد قيادة تصلح ذاتها قبل أن تصلح غيرها، وتحاسب نفسها قبل أن تحاسب الناس.
فالإصلاح ليس وثيقة توقع، بل ثورة قيم.
والفساد ليس قدرا، بل قرار.
وما بينهما، تتحدد ملامح مستقبلنا:
إما أن نصلح وطننا بإرادتنا، أو يصلحونا على طريقتهم، فنخسر الوطن كله.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=95994





