صرخة فلسطين التعليمية… أجيال تُفقَد… منظومة تتفكك

صرخة فلسطين التعليمية… أجيال تُفقَد… منظومة تتفكك

رام الله – الشاهد| خط الكاتب ثروت زيد الكيلاني مقالاً حول عملية التدمير الممنهجة التي تقوم بها السلطة الفلسطينية والاحتلال لمنظومة التعليم، وذلك في ظل استمرار تنكر حكومة محمد مصطفى لحقوق المعلمين، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

تتعرض المنظومة التعليمية الفلسطينية لحرب إبادة ممنهجة، يشنها الاحتلال على كل مقومات الحياة والتعليم، بهدف تفكيك البنية التربوية وإفراغ المستقبل من جوهره وقيمته الحقيقية. ويتضاعف الخطر بفعل شروط المانحين التي تفرض قيوداً تقيد السيادة التعليمية وتحد من القدرة على حماية الزمن والمناهج. لقد تمت الاستجابة الوطنية ضمن حدود الإمكانيات والضغوط، لكنها واجهت تحديات جسيمة أدت إلى فقدان البوصلة التربوية، وظهور قرارات تقود إلى انهيار تدريجي للمنظومة، وتقليص الزمن والمحتوى التعليمي، بما يحرم الطلبة من حقهم في تعلم متكامل وذي كرامة وعمق معرفي.

التساهل في تقليص الزمن والمحتوى لا يمثل حلاً لقضية حقوق المعلمين في انتظام الرواتب وصون كرامتهم الوظيفية والمهنية، بل يشكل تهديداً مباشراً لاستقرار المنظومة وسيادتها، ولقدرة الأجيال الفلسطينية على بناء المعرفة والوعي والقيم وتحقيق الرسالة التربوية. التعليم ليس امتيازاً يمكن التفريط فيه، بل هو ركيزة وطنية وجودية وصمام أمان للإنسان والمجتمع، وأي مساس به هو مساس بالكيان الفلسطيني ومستقبل أجياله.

أولاً: الزمن التربوي كركيزة للبناء والمعنى
الحصة الدراسية في بنيتها التربوية الكاملة زمنها (45) دقيقة، والاستراحة المدرسية المكتملة جزء لا يتجزأ من اليوم الدراسي، فلا يجوز اختزالها أو التعامل معها كخدمة شكلية عابرة. هذه الأطر الزمنية ليست مجرد أرقام شكلية، بل معايير تأسيسية قامت عليها المناهج وبنيتها العميقة، وصُممت لضمان توزيع المحتوى بشكل متوازن، وضبط الحمل المعرفي، وتنظيم الانتقال المتدرج بين المفاهيم، مع مراعاة الإيقاع النفسي والمعرفي للمتعلمين، وخصائص كل طفل الفردية ومستوى استيعابه وقدراته العقلية والانتباهية، أي مراعاة السيكومترية بمعناها التربوي الكامل.
كل وحدة تعليمية، وكل هدف تعلم، وكل نشاط صفّي صُمم وفق هذا الإطار ليؤسس للتراكم المعرفي المتدرج ويحقق التتابع المنهجي المنظم الذي يضمن تحقيق الأهداف الوطنية والتربوية، ويجعل التعلم عملية متكاملة تتشكل فيها المعرفة والمهارات والقيم والوعي، وتتفاعل البنية الجسدية والنفسية والعاطفية للطالب معاً، بما يحقق التوازن بين العقل والجسد والوجدان والروح، ويمنح المتعلم القدرة على تحويل المعرفة إلى معنى حقيقي، وفهم عميق يتيح له التفاعل الواعي مع بيئته ومجتمعه.
يمتد هذا البناء عبر (180) يوماً فعلياً موزعة على مدار العام الدراسي وفق جدول زمني أسبوعي محدد، يضمن انتظام الحصص واستكمال الاستراحة، ويشكل الهيكل الزمني الذي يُنشئ الفهم ويكوّن التراكم المعرفي تدريجياً. أي انتقاص من هذا الإطار لا يُعد تعديلاً تنظيمياً، بل مساساً مباشراً بالبنية التربوية والمنهاج ذاته، وهدماً تدريجياً للتراكم المعرفي ومهارات الطلبة، وتحويل التعلم من معنى إلى مجرد اجتياز شكلي، ولا يمكن إصلاحه بالاختزال أو التكيّف القسري

ثانياً: الانهيار التدريجي ومنطق التراجع
يكشف الواقع الراهن تدهوراً تدريجياً في منظومة التعليم، تمثّل في تقليص زمن الحصة الدراسية من (45) إلى (40) دقيقة، واقتطاع (10) دقائق من زمن الاستراحة اليومية، وتقليص أيام الدوام الأسبوعي من ستة أيام إلى خمسة، ثم أربعة، وأخيراً ثلاثة أيام، مع تقزيمٍ متزامن للمحتوى التعليمي، وذلك مع الإبقاء الشكلي على عدد أيام الدوام السنوي (180) يوماً. ولا تعبّر هذه الإجراءات عن تنظيم مرحلي أو إدارة تقنية للأزمة، بل عن مسار انتقاص تراكمي يعيد تشكيل الزمن المدرسي على نحو أدنى، ويُفرغه من وظيفته التربوية في بناء التعلم المتدرج والمعنى المعرفي.
وقد تم هذا التراجع دون أي إعادة تصميم علمي للمناهج، أو ضبط لبنيتها التربوية، أو مراعاة للتراكم المعرفي والتتابع المنهجي اللازمين لتحقيق الأهداف الوطنية والتربوية. وهو ما أفضى إلى خلل بنيوي يمس جوهر العملية التعليمية، ويقوّض قدرة المدرسة الرسمية على أداء رسالتها في بناء معرفة متماسكة، ومهارات راسخة، وقيم ووعي نقدي لدى الطلبة. إن ما يجري، مهما تعددت مبرراته، لا يمثل إدارة ظرفية لأزمة مالية طارئة، بل تطبيعاً تدريجياً مع الانتقاص، ومساراً صامتاً يعيد تعريف التعليم بوصفه زمناً يُدار، لا مشروعاً وطنياً تربوياً يُبنى.
الأرقام صادمة: فاقد زمن الحصص والاستراحة السنوي يقارب (27) يوماً، وإذا خُفض الأسبوع الدراسي إلى (4) أيام دون إعادة توزيع الحصص، يضاف يوم دراسي أسبوعياً ليصل الفاقد إلى نحو (63) يوماً. وإذا تحوّل الدوام إلى (3) أيام، يرتفع الفاقد إلى نحو (99) يوماً، أي أكثر من نصف السنة الدراسية المكتملة. الطالب يُطلب منه التعامل مع منهاج صُمم لزمن لم يعد موجوداً.
هذا ليس فاقداً تعليمياً بالمعنى الضيق، بل انهيار في التتابع المنهجي والتراكم المعرفي. تسلسل المفاهيم يُكسر، وتفرض على الطالب قفزات معرفية قسرية دون تأسيس، فيتحول التعلم من بناء حقيقي إلى اجتياز شكلي. الدروس التي يفترض أن تُبنى على ما سبقها تصبح وحدات منفصلة، ويغدو الفهم هشاً، والاستيعاب سطحياً، والتعلم ناقصاً.
الأثر يمتد إلى البنية النفسية والاجتماعية والعاطفية للطلبة. تقل القدرة على مراعاة الفروق الفردية، وتضيق مساحات الدعم، ويغدو الصف بيئة ضغط دائم. الطفل يُحرم من الوقت للتثبيت، والتساؤل، والتفاعل الاجتماعي المنظم. وحتى الاستراحة، بوصفها أداة لإعادة التوازن الانفعالي وتنظيم الانتباه، تُجتزأ، وكأن الجسد والعاطفة فائضان عن العملية التربوية.

ثالثاً: الأزمة المالية والاحتلال كقيود على الحق التربوي
الصمت عن هذه القضية ليس حياداً، بل تفريطاً واعياً في أحد أعمدة الصمود الوطني، والتكيّف مع تقليص الزمن التعليمي المستمر ليس واقعية، بل تطبيعٌ خفي مع مسار يُفكك المنظومة التعليمية من الداخل. المسؤولية هنا ليست حصراً على وزارة أو مؤسسة، بل مسؤولية وطنية جماعية، تتطلب رؤية جذرية وحشداً شاملاً لكل الخبرات: الاقتصاديين وخبراء المالية العامة، التربويين، أصحاب الرأسمال الوطني، مراكز البحث، والنقابات، للعمل المشترك على حلول عادلة ومستدامة تحمي كرامة المعلم، وتضمن للطالب حقه الكامل في التعلم المتكامل والمتوازن، وتحصن السيادة والاستقلالية التعليمية بعيداً عن أي شروط خارجية أو ظرفية قد تفرضها الأزمات أو المانحون.
إن الأزمة المالية التي تواجه المدارس الفلسطينية ليست مجرد حادثة عابرة، بل امتداد لواقع اقتصادي واجتماعي متجذر، تتشابك فيه احتلال الأراضي الفلسطينية وقرصنة أموال المقاصة، ما يقيد قدرة الدولة على تمويل التعليم بشكل كامل ومستدام. ومع ذلك، لا يجوز لأي ظرف، سواء كان نتيجة الاحتلال أو التمويل المشروط للمانحين، أن يُحوّل الحق التربوي الثابت إلى رهينة. لا يمكن أن تُستخدم هذه الأزمات ذريعة لاقتطاع الزمن التعليمي، أو تقليص الحصص والاستراحات، أو تفتيت المنهاج، أو حرمان الأجيال الفلسطينية من حقها الكامل في التعلم المتكامل والواعي.

إن هذا التقليص المستمر للزمن والمحتوى التعليمي، في ظل الأزمة المالية، يلحق ضرراً مباشراً بدور المؤسسة العامة الرسمية في تقديم التعليم المجاني والعادل لكل الطلبة، إذ يضعف قدرتها على الوفاء بمسؤولياتها التربوية، ويؤدي إلى انتقال عدد من الطلبة إلى المدارس الخاصة، ما يكرس الفوارق الطبقية ويخلق تمييزاً تعليمياً غير منصف، ويُضعف الحق العام في التعليم المتكافئ والشامل. هذا الواقع يهدد استقرار المنظومة التعليمية وسيادتها، ويحوّل التعليم من حق دستوري واجتماعي إلى سلعة قابلة للتفاوت بين الأسر الميسورة وغير الميسورة، بما يفاقم التفاوت الاجتماعي ويقوض العدالة التعليمية الوطنية

رابعاً: الدعوة الصارمة للدوام الكامل وحماية الزمن المدرسي
التعليم الفلسطيني يشكّل ركيزة مستقبل الوطن، وأي انتقاص منه لا يمس الطلبة والمعلمين فحسب، بل يمس صميم الدولة والمجتمع بأسره. حماية الحقوق التربوية ليست خياراً أو رفاهية، بل واجب وطني يفرضه الواقع، ويستلزم إقرار استقرار المنظومة التعليمية واستدامة كرامة المعلم، وضمان حق الطالب في تعلم حر، متكامل، ذو معنى وكرامة. أي حلول مالية يجب أن تُبنى على أسس الكفاءة والعدالة، لا على حرمان الأجيال القادمة من تعليم متكافئ ومجاني، يحفظ القيم التربوية، ويضمن انتظام الرواتب وحماية الحقوق الوظيفية والمهنية للمعلمين، ويصون استقرار المنظومة وسيادتها.
الدعوة واضحة وحاسمة: الفصل الدراسي الثاني يجب أن يُنفّذ بدوام كامل، بحصص زمنية كاملة (45 دقيقة) واستراحات مكتملة، وكل يوم دراسي محفوظ من أصل 180 يوماً فعلياً، مع برنامج تعليمي متكامل يشمل المناهج، الحصص، الاستراحات، والأنشطة الصفية والبرامج التعليمية، دون أي تقليص أو تفتيت. حماية الزمن المدرسي والبرنامج التعليمي الكامل ليست مجرد تنظيم للوقت أو توزيع للمحتوى، بل صون للمستقبل، وتأمين للإنسان الفلسطيني، وتعزيز للسيادة الوطنية. فالتعليم الفلسطيني لا يحتمل أي مزيد من التراجع، لأن تقليص الزمن أو محتوى المنهاج يشكّل بداية لتفكيك الإنسان، وكسر الإنسان هو تفكيك الوطن على المدى الطويل.

إغلاق