مطلوب صعلوك فلسطيني فورًا… يُفضَّل أن لا يحترم الصمت

مطلوب صعلوك فلسطيني فورًا… يُفضَّل أن لا يحترم الصمت

رام الله – الشاهد| كتب م. غسان جابر: سأكون صريحًا منذ السطر الأول:

أنا مواطن فلسطيني جرّب الصبر حتى صار الصبر عادة سيئة، وجرّب الفهم حتى اكتشف أن الفهم لا يُشبع، وجرّب الصمت حتى تأكد أن الصمت لا يحمي أحدًا سوى من لا يحتاج للحماية أصلًا.

نعيش اليوم أزمة اقتصادية لا تحتاج إلى محللين، بل إلى شجاعة. الأسعار تصعد بلا خجل، والدخل ثابت كأنه نذر صمت، والناس تتعامل مع نهاية الشهر كما يتعامل الأسير مع موعد الزيارة: أمل ضعيف وتأجيل دائم.

ومع ذلك، يخرج علينا من يقول: “الوضع حساس”.

الغريب أن الوضع حساس دائمًا… لكن جيوب الناس لا تُعامَل بالحساسية نفسها.

وهنا يخطر لي سؤال غير مهذّب، لكنه ضروري:

هل خلت فلسطين من الصعاليك؟

أقصد الصعاليك بالمعنى النبيل، لا المعاصر. أقصد أولئك الذين كانوا يزعجون النظام حين يتحول إلى ظلم، لا أولئك الذين يزعجون الفقراء باسم النظام.

عروة بن الورد، في زمنه، لم يكن قديسًا، لكنه كان صادقًا مع جوع الآخرين. كان يشعر بالعار إن شبع وحده.

أما نحن، فقد طوّرنا أخلاقًا جديدة: نشبع وحدنا، ثم نكتب منشورًا عن الصمود.

في فلسطين اليوم، الصعلوك الحقيقي هو من لا يحتكر.

هو من لا يرفع الأسعار “لأن الجميع يفعل”.

هو من لا يعرف طريق العلاقات المختصرة.

هذا الصعلوك يُعاقَب بالقانون، ويُتَّهم بسوء التكيّف مع الواقع.

أما الصعلكة الحديثة—المهذبة، الأنيقة، ذات العلاقات العامة—فهي محترمة جدًا.

تحتكر السوق، ثم تتحدث عن حرية السوق.

ترفع الأسعار، ثم تتبرع بصورة.

تربح من الأزمة، ثم تطلب من الفقراء التفهم.

نسأل: أين صعاليك فلسطين؟

والجواب الصادم: هم موجودون، لكنهم صامتون، لأن الصوت صار تهمة.

دائمًا يُقال لك: انتبه، لا تفتح جبهة جديدة.

كأن الفقر جبهة ثانوية.

كأن الجوع مؤجل.

كأن الناس تستطيع أن تؤجل أولادها حتى تتحسن الظروف.

أنا لا أبحث عن صعلوك يسرق المال. المال يُسرق يوميًا بطرق قانونية ومهذبة.

أنا أبحث عن صعلوك يسرق الوقاحة من المشهد.

شخص يقف ويقول:

لماذا يدفع الفقير ثمن كل أزمة؟

لماذا تُدار الكارثة وكأنها امتحان أخلاقي للفقراء فقط؟

ولماذا يصبح الصبر سياسة رسمية بلا سقف زمني؟

السخرية هنا ليست ترفًا، بل ضرورة.

حين يُقال لك إن الأسعار ترتفع “بسبب الظروف”، اسأل: أي ظروف؟

وحين يُقال لك إن السوق حر، اسأل: حر لمن؟

وحين يُقال لك إن النقد يضر بالوطن، اسأل: ومن قال إن الجوع لا يضر؟

نحن شعب يعرف الاحتلال جيدًا، لكننا بدأنا نخطئ العنوان.

نقاوم الخارج بشجاعة، ونتسامح مع الداخل بحذر زائد.

نرفع الصوت في السياسة، ونخفضه في الاقتصاد، كأن لقمة العيش موضوع محرج.

نريد روبن هود فلسطينيًا؟

لا نريده في الغابة، بل في السوق.

لا نريده ملثمًا، بل مكشوفًا.

لا نريده أن يسرق، بل أن يُسمّي الأشياء بأسمائها: احتكار، تواطؤ، صمت، وخطاب جميل يغطي كل ذلك.

قد يقول أحدهم: هذا كلام قاسٍ.

نعم، لأن الواقع قاسٍ.

وقد يقول آخر: هذا ليس وقته.

وأقول: لا يوجد وقت مناسب للعدالة في نظر من لا يحتاجها.

أنا لا أكتب هذا المقال لأنني أبحث عن بطل، بل لأنني تعبت من انتظار المنقذين.

أكتبه لأنني أرى الناس تُستنزف بهدوء، وكأن الاستنزاف سياسة عامة.

أكتبه لأنني أخشى أن يولد الصعلوك القادم بلا ضمير، بعدما فشلنا في حماية الصعلوك الشريف.

نقول: إن لم نخلق صعلوكًا فلسطينيًا بضمير حي، سيخلق اليأس صعلوكه الخاص—وقتها لن يسأل أحد عن الأخلاق ولا عن التوقيت.

وإن لم يظهر من يسخر من الاحتكار اليوم، سيسخر الاحتكار من الجميع غدًا.

البلاد لا تسقط فقط حين تُحتل، بل حين يتعود أهلها على الظلم، ويطلب منهم أن يبتسموا وهم يتألمون.

السؤال لم يعد: أين الصعاليك؟

السؤال الحقيقي هو: هل نريد صعلوكًا يوقظ الضمير… أم ننتظر حتى يوقظنا الغضب؟.

إغلاق