في زمن الإبادة.. الوطن بحاجة إلى قيادة موحدة لا لـ “ترف فصائلي”

في زمن الإبادة.. الوطن بحاجة إلى قيادة موحدة لا لـ “ترف فصائلي”

رام الله – الشاهد| كتب إسماعيل الريماوي.. منذ التراجع الحاد الذي أصاب منظمة التحرير في مرحلة ما بعد أوسلو، بوصفها الإطار الذي حمل تاريخياً صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، برزت إلى السطح واحدة من أخطر الأزمات التي واجهت الفلسطينيين في تاريخهم المعاصر، وهي أزمة القيادة، أزمة لم تكن عابرة ولا ظرفية، بل تحولت إلى حالة بنيوية مستمرة، عنوانها غياب قيادة فلسطينية جامعة قادرة على توحيد الفلسطينيين كافة وتمثيلهم سياسياً ووطنياً بعيداً عن الاصطفافات الفصائلية الضيقة والانقسامات الداخلية.

وفي هذا السياق، يبدو من الخطأ الفادح اختزال هذه الأزمة أو تحميل مسؤوليتها لفصيل سياسي واحد، مهما بلغ حجم دوره أو أخطائه، لأن ما نواجهه اليوم هو أزمة نظام سياسي كامل، وأزمة رؤية، وأزمة آليات اتخاذ القرار، قبل أن تكون أزمة أشخاص أو تنظيمات، فالخلل لا يكمن فقط في من يتصدر المشهد، بل في طبيعة المشهد نفسه، وفي القواعد التي تحكمه، وفي المسار الذي فُرض على الحركة الوطنية منذ توقيع اتفاق أوسلو، حين جرى تفكيك المشروع التحرري الجامع وتحويله تدريجياً إلى سلطة بلا سيادة، وإلى قيادة مقيدة بوظائف أمنية وإدارية تخدم واقع الاحتلال أكثر مما تتحدى وجوده.

وعند النظر إلى تجارب حركات التحرر الوطني في التاريخ الحديث، يتضح حجم المأزق الفلسطيني بشكل أكثر وضوحاً، فجبهة التحرير الوطني الجزائرية، رغم القمع الفرنسي الوحشي والتضحيات الهائلة، استطاعت أن تفرض نفسها كقيادة موحدة تقود الشعب الجزائري نحو الاستقلال، وفي فيتنام، قادت جبهة وطنية موحدة نضالاً طويلاً ومعقداً ضد واحدة من أقوى الإمبراطوريات العسكرية في العالم، لكنها فعلت ذلك ضمن إطار قيادة سياسية واضحة تمتلك رؤية واستراتيجية وأدوات كفاحية متكاملة، وكذلك المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب إفريقيا، الذي واجه نظام الفصل العنصري لعقود، واستطاع الحفاظ على وحدة القيادة والهدف، رغم التنوع العرقي والسياسي والتحديات الهائلة.

ما يجمع بين هذه التجارب ليس فقط عدالة القضية، بل وجود قيادة موحدة تستند إلى مشروع تحرري واضح، وتُخضع الخلافات الداخلية لمصلحة الهدف الوطني الأعلى، وهو ما نفتقده اليوم في الحالة الفلسطينية، حيث تحولت الخلافات إلى بنية دائمة، والانقسام إلى واقع سياسي مُدار، والقيادة إلى أطر متنازعة لا تمتلك مشروعاً وطنياً جامعاً ولا أفقاً تحررياً واضحاً.
إن استمرار غياب قيادة سياسية موحدة، تمتلك رؤية مستنيرة للتحرير وتستطيع إعادة الاعتبار للمشروع الوطني بوصفه مشروع تحرر لا مشروع إدارة أزمة، سيُبقي الوضع الفلسطيني في حالة حرجة، مهما بلغ حجم التضامن والدعم العالمي غير المسبوق الذي شهدناه في الفترة الأخيرة، فالتعاطف الدولي، مهما اتسع، لا يمكن أن يكون بديلاً عن قيادة قادرة على تحويل هذا الدعم إلى قوة سياسية فعلية، وإلى رافعة للنضال، لا مجرد حالة أخلاقية عابرة.

وتثبت تجارب الشعوب عبر التاريخ أن الاحتلال لم يُهزم يوماً بالمفاوضات وحدها، ولا بالتنازلات المتراكمة، ولا بالاكتفاء بالمسار السياسي المعزول عن الفعل النضالي، فالمسار السياسي، حين ينفصل عن ميزان قوة حقيقي، يتحول إلى أداة لإدامة الاحتلال لا لإنهائه، وحده النضال المتواصل، بكل أشكاله وأدواته، والمسنود بتضحيات جسيمة وإرادة شعبية صلبة وقيادة موحدة، كان دائماً الطريق إلى الحرية والتحرر.
من هنا، فإن إعادة بناء القيادة الوطنية على أسس وحدوية وديمقراطية وتحمل مشروعاً تحررياً واضحاً، لم تعد ترفاً سياسياً ولا شعاراً نظرياً، بل شرطاً وجودياً لبقاء القضية الفلسطينية حية وقادرة على الانتصار، وبدون ذلك سيبقى الفلسطينيون يدورون في حلقة مفرغة، مهما تغيرت موازين التعاطف الدولي ومهما ارتفعت أصوات التضامن حول العالم.

وفي الختام، تفرض المرحلة الراهنة نفسها بوصفها الأخطر في تاريخ القضية الفلسطينية، لا باعتبارها محطة سياسية عابرة، بل لحظة وجودية مفتوحة على كل الاحتمالات، خاصة بعد حرب الإبادة الشاملة التي استهدفت الإنسان الفلسطيني في وجوده وذاكرته وأرضه ومستقبله، ولم تترك مجالاً للحياد أو الترف السياسي أو إدارة الخلافات بمنطق المصالح الضيقة، ففي ظل هذا التهديد الوجودي غير المسبوق، تصبح الحاجة إلى قيادة فلسطينية موحدة مسألة حياة أو فناء، لا شعاراً نظرياً ولا مطلباً مؤجلاً.

إن الشعب الفلسطيني اليوم بحاجة إلى قيادة تقوده إلى بر الأمان والتحرر، لا إلى مزيد من التفكك والشرذمة، قيادة تضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار، وتتحرر من أسر الحسابات الفصائلية والشخصية الضيقة التي أنهكت المشروع الوطني وبددت طاقاته، قيادة تمتلك الشجاعة لإعادة تعريف الأولويات، والقدرة على جمع الفلسطينيين في الداخل والشتات حول مشروع تحرري جامع، يعيد الاعتبار لفكرة النضال بوصفه حقاً وواجباً، لا عبئاً ولا ورقة تفاوضية.

ففي لحظات الخطر الوجودي، لا تُقاس القيادات بقدرتها على المناورة أو إدارة الانقسام، بل بقدرتها على حماية شعبها وتوحيده وصون قضيته، ومن دون هذه القيادة الموحدة، ستبقى التضحيات الهائلة التي قدمها الفلسطينيون عرضة للهدر، وسيبقى الدم الفلسطيني وقوداً لصراعات داخلية لا تخدم إلا الاحتلال، أما بناء قيادة وطنية جامعة، فيبقى الطريق الوحيد لإنقاذ القضية، وتحويل الألم والتضحيات إلى أفق للتحرر، لا إلى جراح مفتوحة بلا نهاية.

إغلاق